شهد عقد الثمانينات من القرن العشرين، أو "زمن الفراغ" بحسب تعبير عالم الإجتماع جيل ليبوفيتسكي، تراجعاً ملحوظاً للعقائد السياسية الكبرى وانعداماً للفوارق الجوهرية بين أبرز الأحزاب السياسية في فرنسا، ترافق هذا التراجع مع انحسار الإلتزام السياسي والعقائدي خصوصاً بين الشباب بعد ان كانوا أكثر الفئات نشاطاً خلال عقدي الستينات والسبعينات. تعددت التفسيرات والتحليلات لظاهرة التراجع هذه. فركز البعض على خيبة الأمل الناجمة عن تراجع اليسار الذي وصل إلى السلطة عام 1981 عن برنامجه التغييري أولاً واتباعه سياسات "يمينية" في مجالات مختلفة. وأشار البعض الآخر إلى فقدان "النماذج الإشتراكية" بريقها في الإتحاد السوفياتي والصين وكوبا الخ. وقد عزز الإنهيار السوفياتي وجهة النظر هذه. وعلى رغم ان الايديولوجية النيو-ليبرالية المهيمنة عالمياً منذ مطلع التسعينات لم تحظ بأجماع الشباب، افتقد هؤلاء الايديولوجية البديلة وساد حذر شديد من "الافكار الثورية" وانحرافاتها المحتملة: لكن الأزمة الاجتماعية التي بدأت تظهر آثارها في هذه الفترة نفسها والناجمة عن التحولات الاقتصادية البنيوية التي شهدتها الدول الصناعية أحيت الصراع الاجتماعي الطبقي وسببت سلسلة من الاضرابات والتظاهرات. من الممكن اعتبار التحركات التي جرت خلال شهري تشرين الثاني نوفمبر وكانون الأول ديسمبر عام 1995، والتي أطلق عليها تسمية "الحركة الاجتماعية" Le mouvement social نقطة تحول في المناخ الفكري والسياسي في فرنسا. وقد احيا هذا المناخ الجديد روح الالتزام بين الشباب. وبرزت في هذه المرحلة الكثير من الجمعيات التي تندد بالعولمة الليبرالية وأهمها جمعية Attac واتحاد المزارعين الذي يحتل "جوزي بوفيه" موقع أمينه العام. وأصبح هذا الأخير رمزاً من رموز مقاومة العولمة. استعادت الجامعات الفرنسية النشاط الذي افتقدته منذ نحو عشرين عاماً حيث بدأت مجموعات طالبية تتشكل تحت شعار "لا للعولمة الوحشية" ومن أنشطها مجموعة من طلبة السوربون، تلك الجامعة الشهيرة التي انطلقت منها انتفاضة 1968 الطالبية. تجلى هذا الواقع الجديد بالمشاركة الكثيفة للشباب في مختلف التحركات المناهضة للعولمة ومنها مثلاً اللقاء الذي أقيم بمناسبة محاكمة جوزي بوفيه في مدينة ميّو Millau بعد تحطيمه أحد مطاعم شركة ماك دونالد قبل نحو سنة، أو في التظاهرات التي جرت في مدينة نيس الجنوبية خلال عقد قمة الإتحاد الأوروبي. عن هذه التظاهرة الأخيرة قالت شارلوت التي شاركت فيها: "كنا عشرات الآلاف من مختلف البلدان الأوروبية، ومن مختلف الأوساط الإجتماعية والأعمار موحدون في مواجهة سادة العالم تماماً كما في سياتل، ودافوس وبراغ. شارلوت فتاة في ال23 من العمر وهي طالبة في السنة الرابعة اقتصاد في جامعة باريس 8. شقراء ونحيلة، وتتكلم بصوت هادئ، وتدخن كثيراً. لكن هدوء الصوت والابتسامة الطفولية لا يلغيان القناعات الحاسمة اذ تقول: "نحن في مرحلة جديدة، وأنا أشعر أن التغيير الجذري قريب وسعيدة لأنني سأكون احدى المشاركات في حدوثه". ولدت في مرسيليا وترعرعت فيها. والدتها من ما يسمى جيل 1968 أي الجيل الذي شارك في الأحداث وهي عملت في المجال الفني سابقاً قبل أن تكون عاطلة من العمل. أما أباها فكان ينشط مع حزب الخضر ويرئس تحرير صحيفة محلية مرتبطة به. وتروي أن هذا الأخير كان يأخذها معه إلى الإجتماعات الحزبية فتشارك في النقاشات وعمرها لا يتجاوز بعد 12 عاماً. إضافة لتأثير الوالدين في بداية تشكل وعيها السياسي، أسهم صعود حزب الجبهة الوطنية العنصري، ذو النفوذ القوي في الجنوب الفرنسي وفي مرسيليا في شكل خاص، في تحفيزها على النشاط السياسي. فالأزمة الاجتماعية القوية في جنوبفرنسا السبب الرئيسي لهذا الصعود الذي يتم برأيها على حساب اليسار. "عانينا كثيراً كعائلة من هذه الأزمة الاجتماعية خصوصاً بعد وفاة والدي". لكن نشاطها السياسي بدأ فعلياً بعد وصولها الى باريس حيث انتمت الى جمعية Attac. ما يميز هذه الجمعية بنظرها هو أولاً كونها إطاراً عريضاً يجمع مناضلين من آفاق سياسية مختلفة وأفراداً غير منتمين للأحزاب السياسية حول هدف مشترك هو ضرورة الضبط الاجتماعي للسوق عبر فرض ضريبة على حركة الرساميل. ضريبة توبين Taxe Tobin. تصر شارلوت على ان عودة النشاط السياسي الى الوسط الشبابي هو نتيجة مباشرة للأزمة الاجتماعية التي تطال الشباب اولاً. فهم اول ضحايا البطالة التي اضحت اليوم بطالة "بنيوية" ودراستهم الجامعية لا تؤمن لهم عملاً، وتزداد نسبة الشباب الذين بلا مأوى وبلا مورد وهم أصبحوا فئة اجتماعية قائمة بذاتها ومسماة "البلا مأوى" SDF - Sans Domicile Fixe. هذا الوضع برأيها ناجم عن هيمنة منطق الربح وحده من دون اي اعتبارات اجتماعية أو بيئية. والنتيجة، إضافة للأزمة الاجتماعية، هي الكوارث البيئية مثل تلوث شواطئ الشمال الفرنسي نتيجة الغرق المتكرر للسفن الناقلة للنفط او ازمة البقر المجنون الخ... اما نيكولاس وهو استاذ فيزياء في ثانوية فولتير الباريسية وعمره 28 عاماً فيقول: "إضافة الى جوانبها المظلمة المختلفة نمت الرأسمالية وتوسعت عبر الحرب - ان معارضتي لحرب الخليج كانت نقطة انطلاق نشاطي السياسي". ولد نيكولاس في مدينة بوردو ونشأ في وسط اجتماعي متواضع أب عامل وأم بلا عمل، ويقول "لم يؤثر والديّ على وعيي السياسي بل بامكاني القول أنهما أثرا سلباً... لم أكن احتمل تعليقاتهم العنصرية. لعبت دروس اللغة الاسبانية دوراً مهماً في تشكلي، فهي التي سمحت لي باكتشاف أدب اميركا اللاتينية وهو مرآة لتاريخها الدامي منذ لحظة اكتشافها من قبل الغزاة الاوروبيين، والمصير الذي آل اليه سكانها الاصليين وواقعها الاجتماعي والسياسي الراهن والمزري وابطالها المثاليين مثل خوسي مارتي، وماندينو، وزباتا، وتشي غيفارا... لقد شكل هذا الاخير بالنسبة لي مثالاً اعلى للمناضل في سبيل العدالة لم تغريه السلطة وذهب في قناعته الى نهايتها". صعد نيكولاس الى باريس لاكمال دراسته الجامعية واقام في مدينة جامعية وكان ذلك إبان حرب الخليج. التقى نيكولاس في الحركة المعارضة للحرب بشبان عرب سوريون ومغاربة أطلعوه على اوضاع العالم العربي والنتائج المدمرة للسياسات الاستعمارية عليه. "منذ تلك المرحلة اعدت اكتشاف تاريخ فرنسا الاستعماري والحروب والمجازر الت ارتكبتها بحق الشعب الجزائري او في مدغشقر الخ... اردت تمييز نفسي بأي ثمن عن الدولة الفرنسية وتاريخها الدامي. ومما زاد تصميمي هو ضعف معارضة غالبية المجتمع الفرنسي في التاريخ الحديث للحروب الاستعمارية". بعد ذلك شارك نيكولاس بالحركات الاحتجاجية ضد مشروع خصخصة التعليم عام 1994، اذ التقى بمجموعة "الاشتراكية من تحت" Socialisme par en bas وهي مجموعة تروتسكية تسعى لبناء حزب ثوري عبر اعادة ربط مختلف النضالات الاجتماعية والسياسية ببعضها البعض. يعتبر نيكولاس ان للمعركة الفكرية اليوم اهمية اساسية فالرؤية ضبابية بالنسبة لغالبية الشباب نتيجة سطوة الاعلام على العقول وتبشيره بأيديولوجية السوق وبثه لقيم الفردية والأنانية. يتم ذلك في سياق ازمة اجتماعية حادة وبطالة مزمنة والنتيجة "حرب الجميع ضد الجميع" في سبيل الحصول على العمل ولقمة العيش. يعتقد تييري ان تشكل الحركة الاجتماعية التي هزت فرنسا اواخر عام 1992 والتي دفعت حكومة آلان جوبيه اليمينية الى التراجع عن قانون خصخصة الضمان الاجتماعي نموذجاً يحتذى" ويضيف "منذ صغري عرفت ان آفاقي محدودة جداً لمجرد كوني أسود". ويعرّف تييري عن نفسه باعتباره افرو-كاريبي على رغم انه فرنسي الجنسية وأنه ولد ونشأ في ضواحي باريس الفقيرة. عمره اليوم 25 عاماً ويدرس الاقتصاد في جامعة Mont pellier. "كانت أمي عاملة تنظيف في مستشفى. تخلى أبي عنا منذ صغري... لذا أسهب في الحديث عن المعاناة وهي على كل حال تشبه معاناة غالبية محيطي الاجتماعي... لا شك في ان مصير عدد كبير من اصدقائي اثر فيّ كثيراً: التخلي عن الدراسة، العنف، السرقات، تجارة وتعاطي المخدرات، السجن او الموت...". لذلك قرر ان يكمل دراسته الجامعية في مدينة Montpellier ليبتعد عن الاجواء التي عاش فيها والتقى هناك بمجموعة الوعي الاسود. وهي مجموعة تحاول اعادة الاعتبار لثقة الافارقة او الشعوب ذات الاصول الافريقية بأنفسهم، فانضم اليها. لكن غياب التحليل الاجتماعي عند هذه المجموعات وعدم ربطها لقضايا الاقليات بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي العام دفعته للابتعاد عنها والانضمام الى حزب العمال - وما قربه اكثر الى هذا الحزب تأييده لفكرة استقلال جزر الكاريبي عن فرنسا. شارلوت، نيكولاس، وتييري شباب من اوساط اجتماعية مختلفة اتوا الى السياسة بدوافع متفاوتة: ضرورة ايجاد حل للازمة الاجتماعية بالنسبة للاولى، التضامن مع الشعوب المضطهدة بالنسبة للثاني، ومقاومة التمييز العنصري بالنسبة للثالث. لكنهم وصلوا الى الاستنتاج نفسه: لا بد من العمل من اجل عالم اكثر عدلاً. عادت هذه الفكرة تلقى تجاوباً بين الشباب بعد ان ساد اعتقاد يومي من ايديولوجية "نهاية التاريخ" ان السياسة انتهت وان الشكل الوحيد للالتزام هو الانتماء لجمعيات حقوق الانسان والدفاع عن البيئة والرفق بالحيوان.