لم تركز الحلقة الخاصة بالانتخابات الرئاسية الفرنسية، من البرنامج الوثائقي التلفزيوني السويدي «مراسلون» كثيراً على النتائج المحتملة التي ستخرج بها في السابع من الشهر الجاري، بمقدار تركيزها على مضامينها ودلالاتها السياسية والاجتماعية، وربما لأهميتها الاستثنائية عنونها معدو البرنامج ب «انتخابات المصير». فالبلاد تشهد انقساماً حاداً لم تعرفه من قبل، والأكثر مدعاة للقلق إنها تتزامن مع صعود تيارات يمينية متطرفة أوروبية وهيمنة الشعبوية على مقاليد الحكم في الولاياتالمتحدة وابتعاد بريطانيا من الوحدة الأوروبية، بالتالي فالخوف من عزل فرنسا عن بقية القارة كان عنواناً بارزاً لتحرك الأحزاب السياسية. فبينما تدعو «الجبهة الوطنية» برئاسة مارين لوبن إلى الخروج منها، تميل قوى ليبرالية أخرى متمثلة بمرشح الوسط إيمانويل ماكرون للبقاء فيها. ومن خلال متابعة البرنامج لتحرك مجاميع ونشطاء من الطرفين يظهر مدى الاستقطاب الجديد الحاصل في المشهد السياسي الفرنسي وخطورة حصر القوى المؤثرة فيه بحزبين أو شخصيتين على غير المألوف في الديموقراطيات العريقة وبخاصة الأوروبية. قبل دخول فريق العمل إلى مقهى مزدحم شمال العاصمة باريس، كان أعضاء من منظمة «أوروبا مباشرة»، يتابعون المناظرات السياسية قبل انطلاق مرحلتها الأولى. سجلوا بكاميراتهم ملاسنات ووقوع مشاجرات عنيفة بين شباب ينتمون إلى تيارات سياسية مختلفة وسط اندهاش المارة واستغرابهم من بروز الظاهرة الجديدة في الحياة السياسية الفرنسية، وخلال شروعهم باجراء مقابلات داخل المقهى مع بعضهم ظهرت على الشاشة الصغيرة المرشحة اليمينية المتطرفة لوبن. في مخاطبتها جمهورها ركزت على أهمية عودة فرنسا إلى ما كانت عليه وضرورة أن تذهب أموال البلاد إلى الفرنسيين، وشددت بقوة على التزامها برنامج يضمن «استقلال القرار الفرنسي». دعوة فهمها المتحمسون للبقاء في الوحدة الأوروبية بأنها تهديد مبطن يمكنها من استقطاب تيارات واسعة من الجمهور الفرنسي لجانبها. يعترف غلين تومسون، أحد العاملين في المشروع المدعوم من الوحدة الأوروبية بدهاء المرشحة اليمينة وقدرتها على الخطابة وإقناع المستمع إليها بحقيقة ما تقول «على رغم أن معظم كلامها تنقصه الموضوعية ولا يستند على المعطيات، لكنها تتمتع بقدرة عالية على الإقناع وتعرف كيف تخاطب مخاوف المواطن الفرنسي». أما أكثر ما يخيف الشاب المتحمس فهو، الاستقطاب، وخطر موت الديموقراطية الفرنسية. فالاستقطاب وفق رأيه «سيُقسم فرنسا إلى معسكرين وسيزيد من حدة الانشقاق بين مواطنيها». يترك البرنامج شمال العاصمة ويذهب إلى وسطها ليسجل تحرك مجموعة من أعضاء «الجبهة القومية» وهم يوزعون المنشورات الدعائية على المارة. تنطق الشابة من مؤيديها بكلمات قائدتهم: «أشعر بالخوف عندما أسير ليلاً في المدن الكبيرة. لم تعد فرنسا آمنة كما من قبل. حريتنا مهددة ويجب الدفاع عنها، لقد أثرت فيّ العمليات الإرهابية الأخيرة ويجب وضع حد للغرباء المعتاشين على أموالنا». تلخص الناشطة اليمينية توجهات حزبها للمارة ولنشرها على نطاق واسع تتحرك بحماسة استثنائية، فالفوز في الانتخابات بالنسبة إليها يعني، «عودة فرنسا للفرنسيين». في مشهد ينقله البرنامج يظهر الإنقسام المجتمعي والسياسي جلياً والاستقطاب ظاهراً، فحال اقترابها وبقية زملائها من المنطقة الجامعية، عبروا عن خوفهم من مواجهة الطلاب اليساريين. أثناء كلامها مع الصحافيين اقترب شاب منها وقذف كل معداتها ومنشوراتها على الرصيف. الصياح تعالى والتهم تبادلوها لكنها نفت بقوة عن نفسها تهمة العنصرية وكراهية الأغراب، تماماً كما تفعل الزعيمة لوبن حين تخاطب عامة الفرنسيين وقد نجحت تكتيكاتها في وصولها إلى أشد المناطق كرهاً لسياستها والسبب استغلالها الأوضاع الاقتصادية المتدهورة. في مدينة فيرزون العمالية يتجول البرنامج التلفزيوني بصحبة شاب عاطل عن العمل في أرجاء المنطقة الصناعية، التي أغلقت مصانعها وهجرتها غالبية سكانها، حتى بدت ميتة لا حياة فيها، على عكس فترة الثمانينات التي شهدت ازدهاراً. لم يعد الوسط اليساري العمالي وبسبب الركود كما كان عليه ومن الصعوبات الحياتية وقلة فرص العمل استطاع اليمين الوصول إلى قطاعات منه واغداق الوعود اليهم بإمكان فتح مصانع المدينة المغلقة ثانية. يدرك الشاب ريمي بيريو استحالة ذلك لكنه لا يستطيع مقاومة قوة إغراء الوعود في ظل تراجع الدولة عن أداء واجبها في حماية المدينة ومصادر رزق سكانها. «لم يفعل السياسيون شيئاً للمدينة تركوها تموت ويدخلها اليمين، وبسبب البطالة وتدني مستوى التعليم لم تعد المدينة عمالية واعية كما كانت وبالتالي فإيمان الناس بالوحدة الأوروبية تراجع وبالمقابل ازدادت الأفكار الداعية للخروج منها قوة». دعاة الوحدة بدورهم ينشطون في المدارس والأحياء الشعبية ويقدمون محاضرات بأهمية بقاء فرنسا ضمن حاضنتها الطبيعية ومن خلال مقابلته لناشطات من أصول أوروبية مختلفة يظهر ميل قوي لهذا الاتجاه. ثلاث شابات من أصول، ألمانية وسلوفاكية وواحدة فرنسية، أكدن أن فرنسا لا يمكنها إلا أن تكون أوروبية وأن العنصرية والانعزال القومي طارئ عليها، لذلك هن ضده ويدعمن بالمقابل التوجه إلى التعددية والانفتاح. حين سألهن معد البرنامج هل يشعرن بأنهن أوروبيات أولاً أو يغلبن انتماءهن القومي عليه؟ أجمعت إجابتهن على كونهن أوروبيات بالدرجة الأولى ويفخرن في الوقت ذاته بوطنيتهن. ينتهي البرنامج إلى استنتاج عام بعد استماعه إلى آراء الأطراف المتصارعة على الفوز بالانتخابات، أن نتائجها على أهميتها ليست هي العنصر الأكثر إثارة للقلق هذه المرة، بل الخوف على الاستقطاب المجتمعي الحاصل في فرنسا ويصعب إزالته مستقبلاً بسهولة.