الديغولية في أزمة. وهناك، في فرنسا، من يتحدث، ببساطة، عن موتها. صحيح انه ليس من علامات الحياة أو الحيوية ان يكون مرموزاً اليها بالرئيس جاك شيراك ولكن ذلك، وحده، لا يختصر مشكلتها. فالرجل يحبّ ان يطلق على نفسه صفة "نيو - ديغولي" وهو يعتبر ان صلته بهذا التيار هي من نوع صلة طوني بلير أو غيرهارد شرودر بالاشتراكية - الديموقراطية... واهية! لقد كان الجنرال الراحل محطة بارزة في سياق تاريخي فرنسي. لقد بلور، فكراً وممارسة، سياسة تقوم على افكار من نوع أولوية الأمة والسيادة الوطنية والاستقلال ضمن اوروبا وتدخل الدولة في الاقتصاد والصوت الفرنسي الفريد في العالم ونوع من "الشراكة" بين طبقات المجتمع، الخ... والواضح انه لم يعد لأي من هذه الافكار موقع جدّي في السياسة التي يتبعها حزب التجمع من اجل الجمهورية. ومع ذلك، أي مع وجود هذه الرغبة القوية في التأقلم، فإن الحزب المذكور يعاني تصدعاً رهيباً وهو لن يخرج، بسهولة، من الأزمة التي قذفته اليها النتائج المحققة في الانتخابات الاوروبية الاخيرة. ان المنحى الذي اتخذته عملية البناء الاوروبي يجعل عظام الجنرال تتحرّك في القبر. فالديغوليون الاقحاح يميلون الى الاتحاد الحر بين أمم أوروبية في حين ان المضيّ في مشروع العملة الموحدة ودخوله حيّز التطبيق يعنيان تخلياً عن شطر من السيادة الوطنية ويفتحان الباب امام فيديرالية تهدّد، في العمق، الكيان المستقل للأمة. واذا كانت "العولمة" تشكل قضماً يومياً من سيادة الدولة فإن الصيغة المعتمدة في فرنسا للاندراج فيها لا تشبه الديغولية في شيء حتى لو نظر اليها من زاوية ضرورة التصحيح والتنقيح. لقد شكّلت الحرب الاخيرة في كوسوفو مناسبة لتعريض الديغولية الى امتحان قاس. فهي عنت مجموعة من الامور معاًً. لقد دفعت باريس الى التخلي عن حليف تاريخي هو الصرب. وقادت الى تعزيز فكرة التماهي بين الامة والاتنية بما يخالف الإرث الجمهوري العزيز على الديغوليين. وأدت الى إضعاف الدور الفرنسي خصوصاً حيال الدور البريطاني الذي بدا راجحاً بين الاوروبيين. وبما ان منبع هذه الممارسات كلها تغليب وجهة نظر الولاياتالمتحدة في شأن يهمّ القارة فإنه كان من الطبيعي لمعارضي الحرب، يساريين أو يمينيين، ان يلجأوا الى قامة الجنرال المديدة من اجل الاختلاف مع وريثه الحالي. ان آلاف الجنود الفرنسيين في كوسوفو، كما في البوسنة، موضوعون تحت الامرة المباشرة لحلف شمال الاطلسي. والألوية الأوروبية الدفاعية المستقلة أعيد النظر بها لتصبح جزءاً من المنظومة الاكبر. واذا كانت قمة كولونيا الاخيرة طرحت على بساط البحث موضوع السياسة الخارجية والدفاعية فإنها فعلت ذلك بما يحسم بأن الأمن الفرنسي والاوروبي الاستراتيجي اطلسي في العمق ووطني في ما يخص التفاصيل الصغيرة. ان علامات الاحتضار متكاثرة. وليس غريباً، والحال هذه، ان يبحث الجمهور الديغولي عن قيادات له خارج حزب الرئيس وان يبدو وزير الداخلية الاسبق شارل باسكوا أكثر قدرة على الجذب. ومتى أضيف الى ذلك التراجع الكبير في نفوذ شيراك والصراعات المحتدمة في قمة التجمع اصبح مشروعاً التساؤل عما اذا كان في امكان الديغولية ان تخرج من أزمتها.