منذ سقوط غرناطة بين أيدي الملوك الكاثوليك في 2 كانون الثاني يناير 1492، تحولت العلاقة بين العرب واسبانيا إلى عداء، ثم كان ما فعله الاستعمار الأوروبي بهم خلال قرون الاحتلال ليمتد العداء إلى كل ما هو أوروبي، ويزيد هذه العلاقة تعقيداً. وتحولت الأندلس إلى مجرد صورة "الأندلس المفقود"، تداعب خيال الشعراء، وانتقل الغضب في الشعر حنيناً، أما بالنسبة إلى الأوروبيين فسقوط غرناطة بات بداية تاريخ جديد، تخلصوا فيه من "الاستعمار العربي". ومع التغيرات التي طرأت بمرور السنين، بدأت العلاقات بين اسبانيا والعرب تتحول تعاوناً وصداقة، وقفزت قفزة كبيرة نهاية السبعينات، بفضل ادولفو سواريث أول رئيس وزراء اسباني بعد التحول الديموقراطي، عقب رحيل الجنرال فرانكو وتولي خوان كارلوس الأول عرش بلاده. شجع هذا التحول جماعات كثيرة من المثقفين الاسبان الذين كانوا يرون في الإرث الأندلسي إرثاً ثقافياً خاصاً، فكونوا جمعيات أهلية تدعو إلى العودة إلى هذا التراث ونفض التراب عنه. فكانت جمعية "الثاني من كانون الثاني" التي تضم كتّاباً لهم مكانتهم الأدبية مثل خوان غويتيسولو وانطونيو غالا واندريس سوبينيا والفنان كارلوس كانو رحل قبل أسابيع قليلة، والصحافي خافيير فالنثويلا، وكثيرين من المستعربين مثل كارمن رويث وثيليا ديل مورال وغيرهما من المثقفين الاسبان. وينتسب إليها أيضاً عدد من المثقفين العرب، وإن كانوا قلة، ومعظمهم من المغرب بحكم الجوار الجغرافي. ترفع هذه الجمعية شعار "من أجل التعايش بين الثقافات"، وهي نجحت في تحقيق العديد من أهدافها، ومنها ادخال تعديلات على الاحتفال بيوم "سقوط غرناطة" ليصبح احتفالاً ب"لقاء الثقافتين الإسلامية والمسيحية". وتحولت كلمة عمدة المدينة التي يلقيها في احتفال رسمي يقام في مجمع قصور الحمراء يوم الاحتفال بالعيد القومي لمدينة غرناطة في 2 كانون الثاني، ليكون محورها التنوع الثقافي والفني والعرقي شعار المدينة في هذه المناسبة. تجاوب مع دعوة المثقفين سياسيو اقليم الاندلس الذين يتمتعون باستقلالية تامة عن الحكومة المركزية في مدريد، طبقاً لنظامها السياسي. وتبنت الحكومة الاقليمية للأندلس التي يحكمها الحزب الاشتراكي منذ بدء العهد الديموقراطي، العديد من المبادرات، بتشجيع النشاطات الثقافية التي تتطلع إلى استعادة اللحظات المضيئة في تاريخ الأندلس الإسلامية. وأنشأت السلطة السياسية العديد من المؤسسات التي تعمل في هذا الاتجاه، سواء في شكل منفرد ومستقل، مثل مؤسسة "التراث الأندلسي" التي تحاول احياءه ونشره كثقافة عامة بين المواطنين، واستخدامه كواحد من عناصر الجذب السياحي... أو باجتذاب المبادرات الأوروبية في هذا الاتجاه وتشجيعها، مثل المدرسة العربية - الأوروبية العليا للإدارة، التي تتخذ غرناطة مقراً لها وتمولها المفوضية الأوروبية. مثل آخر في هذا المجال، القسم العربي لوكالة الأنباء الاسبانية افي الذي يتخذ غرناطة مقراً وأصبح تنواة لمشروع أكبر، تحاول من خلاله الحكومة الاقليمية للأندلس النفاذ إلى رؤية أرحب، بتحويله إلى مؤسسة إعلامية ثقافية اقليمية باسم "مؤسسة المتوسط للإعلام". هذا المشروع قدم رسمياً في غرناطة قبل أسابيع قليلة، وتنتظر الخطوات التنفيذية نتيجة الحوار مع أطراف ترغب حكومة الأندلس في مشاركتها. نجحت مؤسسة "التراث الأندلسي" في نشاطات ثقافية، أبرزها "دفاتر تعليمية"، أولها بعنوان "الأندلس، اعرف تاريخك، المسلك الثقافي للمرابطين والموحدين"، ليكون كتاباً تعليمياً، لا تدرّسه المدارس الاسبانية فقط، بل يعمم في كل دول الاتحاد الأوروبي. لذلك صدر باللغات الاسبانية والايطالية والفرنسية والانكليزية، بمشاركة المفوضية الأوروبية. يتكون الكتاب من قسمين: الأول مخصص للتلاميذ والثاني للمعلمين، و"يسعى إلى جعل الجيل الجديد من التلاميذ الأوروبيين يتعرفون إلى تاريخ أوروبا"، عبر عمل "جيد ورصين". وانجز الكتاب ليتلاءم مع حاجة الطلاب في مراحل التعليم المختلفة، ولمساعدتهم في فهم تاريخهم بلا تشويه، والطموح ان يتحقق ذلك من خلال دراسة تراث الاندلس وتنوعه اللغوي والثقافي، واحترام ارثه وتطور مساره التاريخي، وتوظيف الدراسة في تحقيق الاعتراف بحقوق الإنسان وحرياته كإنجاز ضروري للإنسانية وللاعتراف ب"الآخر". المبادرة التي اضطلعت بها "مؤسسة التراث الاندلسي" لم تخل من معاناة نتيجة قلة الامكانات المادية. وإذا كانت المؤسسة استفادت من دعم المفوضية لإنجاز هذه السلسلة من "الكراسات"، فإنها في حاجة إلى دعم الجانب العربي للحفاظ على استمرارية المبادرة التي لن تقتصر نتائجها على اسبانيا فقط، بل ستشمل كل دول الاتحاد، وكي يمكن إزالة الصورة المشوهة أحياناً لكل ما هو عربي في بعض وسائل الإعلام.