استبشرت بالخبر المنشور عن انشاء مركز جامعي للأبحاث السردية في المغرب، وأعادني هذا الخبر الى أجواء "مؤتمر الرواية في القاهرة" إذ أثار ذلك المؤتمر في نفسي العديد من القضايا العلمية والثقافية التي سأستعرضها في هذه الكلمة. لقد اتضح من الأبحاث والمناقشات التي دارت في المؤتمر أن نقد الرواية في عالمنا العربي لم يبلغ ما بلغه نقد الشعر. فالشعر له تاريخ مديد مع ثقافتنا ومع ذاكرتنا، وكذا هي حال نقد الشعر إذ أنه علم متجذر في الثقافة العربية وله رصيد عميق من المقولات والنظريات والمصطلحات مع ممارسات ثرية ومتنوعة وعميقة. ولو استعرضنا المنجز المعرفي في ثقافتنا المعاصرة لرأينا أن نقد الشعر كان هو أكثر الخطابات الثقافية انجازاً من جهة، ودقة منهجية من جهة ثانية. كذلك هو الأكثر في تفاعله المعرفي مع الآخر ومع الموروث، ومن هنا فإن لدينا رصيداً قوياً في البلاغة الشعرية وفي النظريات الجمالية. وإذا التفتنا الى نقد الخطاب السردي - بما فيه الرواية - سوف نفاجأ بضحالة المعطى النقدي هنا مقارنة بنقد الشعر، بل إن المرء ليلمس في كثير من المقاربات أننا نقرأ الرواية وكأنما هي قصيدة، ونتكلم عن السرديات مثلما نتكلم عن الشعريات. وهذه ملاحظة يحس بها من تابع النقد الروائي أو من تمعن في كثير من ورقات مؤتمر الرواية في القاهرة، وهذا يعني أن الحاجة ماسة معرفياً وثقافياً للالتفات في مسألة الخطاب السردي التفاتة جادة ومؤسساتية. ولقد فهمنا أن مؤتمر الرواية سيعقد دورياً مرة كل سنتين في القاهرة، ولو صار هذا فإننا سنكون على مشارف التكوين المؤسسي لاستنهاض البحث السردي في الثقافة العربية. ولن يتحقق هذا التكوين المؤسسي إلا إذا أخذنا مجموعة من الأشياء في الاعتبار وهي: 1- لا بد من توسيع مدار السؤال ليشمل الخطاب السردي بما أنه خطاب سردي عام وليس الرواية بمفردها. فالرواية جزء من خطاب، ولهذا الخطاب جذور عربية في السرديات العربية بأنواعها كافة. وندرة الدراسات في السرد التقليدي والشعبي مرتبطة بقصورها هناك، ولذا فإنه من المفيد أن يكون هذا المؤتمر معنياً بالسرد والسرديات وليس مخصصاً في واحد من أنواع السرد. 2- من المفيد ومن الضروري أن تكون بعض محاور المؤتمر مخصصة للنظرية والمقولات النقدية عن السرديات، وهذا سيعطي مداخل نظرية لا بد من التكثيف منها من أجل إثراء التبصر النظري في السرديات، وهذا مجال فيه نقص حقيقي في عالمنا العربي، خصوصاً إذا ما قارناه بالمنجز النقدي الشعري. 3- سيكون من المفيد حقاً لو صار المؤتمر داراً للنشر بحيث تنشر أبحاث المؤتمر في كل دورة من دوراته، وبهذا يكون المؤتمر مؤسسة ثقافية قابلة للتجذر والتأثير. وأنا أعلم أن الصديق جابر عصفور يبادر الى نشر البحوث في مجلة "فصول"، وهذا أمر طيب ويحمد له، غير أن ذلك من الممكن أن يضاف إليه تبني كتب ودراسات يدفع إليها المؤتمر ويخطط لها في سبيل تكوين تيار نقدي ونظري في الخطاب السردي العربي. ويكفي أن الأمم كلها ترى أن العرب هم أسياد السرديات وهم مخترعو السرد والمهرة فيه. وهذا يفترض أن نكون أيضاً من أهل النظر والبصيرة في السرد، ويفترض أن يقدم العرب مقولاتهم حول السرديات، وهذا لن يتسنى الا عبر مجهود مؤسسي. 4- يحمد لمؤتمر القاهرة تخصيصه لجائزتين للرواية واعتماده فكرة الاستمرار عبر عقد المؤتمر دورياً مرة كل سنتين، وكذا حرصه على تمثيل كل التيارات والاتجاهات. وهذه كلها خطوات تأسيسية مهمة، ولكنها لا تكفي وحدها لتكوين توجه ثقافي مؤسسي، وقد يحدث لهذا المؤتمر ما حدث لغيره من مؤتمرات الثقافة في العالم العربي التي تكون مجرد مناسبات للتلاقي والتفسح والتعارف ثم النسيان بعد التفارق، ولا يبقى من المؤتمر الا رغبات فردية في التلاقي ثانية في مؤتمر آخر. هذا حدث ويحدث، ومن الممكن للمجلس الأعلى للثقافة في مصر أن يقدم لنا نموذجاً مختلفاً من المؤتمرات لو حول مؤتمر الرواية الى مؤسسة ثقافية تأخذ المسألة من جذورها وتبنيها بناء نظرياً ومعرفياً وتجعل المشاركة في المؤتمر انتماء لهذا المؤتمر بوصفه مؤسسة علمية، في حين يكون العمل بمثابة خطة ذات بعد نظري وتاريخي. على أن الحاجة المعرفية ماسة بشكل حاد وملح من أجل تأسيس النظر النقدي في السرديات، وهذا سيعزز فينا الحس النقدي بعامة، وسيحررنا من البعد الذي سيطر علينا بواسطة البلاغة الشعرية، تلك البلاغة التي احتلت رؤيتنا وحددت تصوراتنا بشروط البلاغة الشعرية. ومن المهم أن ندخل في مرحلة نقد هذه البلاغة وتشريحها، وسوف يكون من نمو الوعي بالحقيقة السردية نمو معادل في تحرير الذات العربية من سطوة البلاغة الشعرية. أخيراً أسجل فرحي بخبر انشاء مركز جامعي للأبحاث السردية في المغرب مع تطلعي العميق لرؤية مؤتمر السرديات في القاهرة بصورته المؤسسية التي نتمناها.