يقول الفيلسوف بليز باسكال قبل أكثر من ثلاثة قرون: «إن الإنسان إذ يود لو كان عظيماً، فيرى نفسه ضئيلاً، ويود لو كان سعيداً، فيرى نفسه شقياً، ويود لو كان كاملاً، فيرى نفسه ناقصاً، ويود لو حصل على حب الناس وتقديرهم، فيرى أن عيوبه وأخطاءه لا تستحق منهم إلاّ الامتعاض والاحتقار، فيعاني من الشعور بالإحباط والحرج، ما يولد لديه عواطف وأحاسيس بها من الحقد والظلم والإجرام ما لا يمكن تخيله، إذ إنه يشعر بكراهية قاتلة إزاء تلك الحقيقة التي اكتشفها، والتي تخبره بأنه هو الملوم، والتي لا تفتأ أن تذكره بنقائصه»، وفي محاولة لفهم هذا الحقد الطبقي المتزايد في مصر، والذي نما وتسلق حتى تعملق، وإن كان يحلو لأهله تغليفه بمفاهيم العدالة والاقتصاص، نقول قد يكون منبعه السخط المتراكم على المجتمع، أو بالتحديد على طبقات اجتماعية بعينها، فمع تضخم الثروات منذ سبعينات السادات، ومع ارتفاع الأسعار بالانفتاح الاقتصادي، تكوّنت شرائح في المجتمع المصري كانت عاجزة عن اللحاق بركب موجة الثراء، هذه العائلات الاجتماعية الدنيا من الطبقة المتوسطة وإن كان أبناؤها من خريجي الجامعات، إلا أنها عانت كثيراً، وسحقت كثيراً، فافتقدت إلى التمتع بالرضا عن النفس، والذي كانت تراه في عيون من تربعوا على قمة الهرم الاجتماعي، أو حتى من جلسوا على الدرجات العليا من الطبقة المتوسطة، فماذا تتوقع من إنسان محبط، فاقد ثقته بنفسه ومجتمعه، يعتقد أن الدنيا تحالفت مع جلاديه فارتضت له مصيره؟ يقول الباحث المصري سعد الدين إبراهيم في دراسته عن جماعة التكفير والهجرة والهجوم على المدرسة الفنية العسكرية في عام 1974، انه قام بدراسة الأحوال الاجتماعية ل 30 شخصاً، فوجد أن آباء 21 فرداً منهم من متوسطي الموظفين بالحكومة، وأربعة من صغار التجار، وثلاثة من صغار حائزي الأراضي الزراعية، واثنين ينتميان إلى الطبقة العاملة، أما من حيث التعليم، فكان 19 من الآباء حاصلين على شهادات تعليم متوسطة في مقابل سبعة فقط حاصلين على الشهادات الجامعية، ليخلص الباحث إلى نتيجة مفادها: «من الممكن القول وباطمئنان ان معظم أفراد تلك الجماعات الإسلامية المتطرفة إنما ينتسبون إلى الطبقة المتوسطة أو المتوسطة الفقيرة»، طبعاً هذا الكلام تنسفه الخلفيات المادية والاجتماعية «المرتاحة» لشخصين في حجم ابن لادن وأيمن الظواهري، ومع ذلك يبقى الأثر المتدني للعاملين الاقتصادي والاجتماعي مهماً وأساسياً في تفسير الجنوح التعصبي التطرفي للمرء، فقائمة الفقر يأتي في مقدمة صفاتها افتقار الثقة بالنفس، وهو اهتزاز معناه الضعف يصيب الإنسان ويغذي في أعماقه شعور «اللاقيمة»، أضف إليه أسلوب تعامل الآخرين، وتكرار مواقف إذلالهم له، ما يجعله يلجأ إلى ارتكاب الصغائر والحيل التي من شأنها التقليل من شأن هؤلاء المسخوط عليهم في نظره، بما في ذلك الإمعان في انتقادهم والسخرية منهم، وإن من وراء ظهورهم، تغاضياً عن حسناتهم مهما كانت، وتمادياً في إبراز عيوبهم تسويغاً للهجوم عليهم، ومع طول المدة وخنقة الظروف، تتدرج الأمور وتتطور من الشعور بالظلم الاجتماعي إلى الأكبر منه، ويحمل في طياته أجندة السعي العملي إلى الانتقام ممن كانوا ولم يكن، ممن صاروا ولم يصر. وما قيل عن الحالة الاجتماعية يمكن أن ينسب إلى الدينية، فمن التقليل من قيمة الآخرين اجتماعياً إلى التعصب لإهانة أفراد الطوائف الأخرى والتحقير من شأنهم، بل ووصفهم بأعداء الله، وقد يبدو الأمر غريباً حين يلجأ المرء ليشعر بقيمته ليس إلى التدين نفسه كما تعودنا في استهلاك ورقة الدين واستغلالها، ولا إلى رؤية الآخرين للشخص وهو يوغل في مظاهر التدين، ولكن إلى انتسابه إلى دين حصل أنه اختلف فيه عن دين بعضهم، وهو انتساب لا فضل له به شخصياً، فلا هو كان اختياره ولا ثمرة اجتهاده أو عمل قام به، ولكنه أتى على الدنيا فوجد عليه آباءه وأجداده، تماماً مثل ما جاء غيره إلى الدنيا، فصار على دين آبائه، وقد يكون هذا الانحدار في تعصب المرء لدينه على مستوى التفكير والسلوك الفردي مفهوماً على نحو ما، أمّا ان يتحول إلى تبني مجتمعي يجد من يؤيده ويحركه عبر فترات زمنية متقاربة، فهل يعني هذا أن المجتمع أصابته لوثة التفسير اللاعقلاني للانتماء الديني؟ أم نحن أمة لا تؤمن في جذورها بالتسامح الديني؟ فما نفع الحرية إذاً إن كنا على شاكلة «نحب من يبدي رأيه بصراحة، إن كان رأيه كرأينا»؟ وما الذي سيختلف إن كانت جرعة الحرية المطالب بها ستوجه نحو مزيد من عدم الحرية؟ لنعود ونسأل: هل قيمة المرء في حصوله على حريته أم في ما هو فاعل بها؟ [email protected]