قاعدة الملك عبدالعزيز الجوية بالظهران تنظم معرضًا أرضيًا للطائرات    منح ميدالية الاستحقاق ل 308 مواطنين ومواطنات تبرعوا بدمائهم 10 مرات    إجازة لستة أيام ومباراة ودية للفتح خلال فترة التوقف الدولي    محافظ صبيا يكرم مدير مكتب التعليم بمناسبة انتهاء فترة عمله    طالب الطب الصعيري يكتشف خطاً علمياً في أحد أبرز المراجع الطبية العالمية بتخصص الجراحة    وزير الثقافة يعلن من مؤتمر الاستثمار الثقافي عن "جامعة الرياض للفنون"    انطلاق معرض إنترسك السعودية في نسخته السابعة بالرياض    نائب أمير الشرقية يستقبل قائد المنطقة الشرقية بمناسبة تكليفه    5 آلاف زائر لفعاليات نادي وزارة الداخلية وطويق احتفالا باليوم الوطني بالخبر    نائب أمير جازان يدشّن مبادرة "صحة روح" للفحص المبكر لمرضى الدم    ‏نائب أمير جازان يستقبل مدير فرع هيئة الأمر بالمعروف بالمنطقة    بلدية الظهران تطلق مبادرة "ظلهم علينا" بالتعاون مع جمعية هداية    "سعود الطبية" تنظّم ملتقى "صوت المستفيد يقود التغيير"    شنايدر إلكتريك ترقع مذكرات تفاهم استراتيجية مع شركات رائدة خلال قمة الابتكار بالرياض 2025    أمير الرياض يستقبل نائب وزير الحرس الوطني    تتويج أبطال بطولة الدمام لكرة المناورة.. بإجمالي جوائز 40 ألف ريال    انزاغي يختار بديل مالكوم أمام ناساف    جمعية كتاب الرأي تحتفي بفيلم العوجا 17:47    برنامج "جودة المياه" يعمل على تحويل المياه المالحة الى مياه بجودة عالية بمعايير عالمية    الأحساء تحتضن منافسات الأمن السيبراني الوطنية    الهيئة السعودية للتخصصات السعودية تعتمد برنامج طب التخدير في تجمع تبوك الصحي    أوروبا تشهد ارتفاعا في درجات الحرارة أسرع مرتين من بقية العالم    فعد الغامدي إنجاز غير مسبوق لأول سعودي يحصد تصنيف "الإيكاو" الدولي    محافظة الفرشة بتهامة قحطان تحتفل باليوم الوطني 95 وسط حضور جماهيري واسع    ارتفاع أسعار الذهب    وزارة الرياضة تصدر بيانًا حول أحداث مباراة العروبة والقادسية في كأس الملك    يوم لنا مشهود بعال المراقيب    بعد إقالة بلان.. الاتحاد مهدد بفقدان بنزيمة    قبل لقائه المرتقب مع نتنياهو.. ترمب: فرصة تاريخية للإنجاز في الشرق الأوسط    الديوان الملكي: وفاة عبطا بنت عبدالعزيز    «هيئة الشورى» تحيل 20 موضوعاً للجان المتخصصة    خلال مشاركته في المؤتمر السعودي للقانون.. وزير العدل: التشريع في المملكة يرتكز على الوضوح والمشاركة المجتمعية    مخالفو الصيد البحري في قبضة الأمن    أول محمية ملكية سعودية ضمن برنامج اليونسكو    صعوبة بالغة لوصول الطواقم الطبية والمصابين.. دبابات إسرائيلية تتوغل في غزة    عسير: فرع هيئة الصحفيين ينظّم ندوة "الخطاب الإعلامي للوطن؛ بين ترسيخ الهوية وتعزيز القيم"    معرض الكتاب.. نافذة على عوالم لا تنتهي    أحمد السقا ينجو من الموت بمعجزة    أكد التزامها بالتنمية المستدامة.. وزير الخارجية: السعودية تترجم مبادئ ميثاق الأمم المتحدة لواقع ملموس    حائل تستضيف كأس الاتحاد السعودي للهجن للمرة الأولى    محطماً رقم رونالدو وهالاند.. كين أسرع لاعب يصل للمئوية    صالات النوادي والروائح المزعجة    ورقة إخلاء الطرف.. هل حياة المريض بلا قيمة؟    ترمب يجتمع بكبار القادة العسكريين    السودان: 14 مليار دولار خسائر القطاع الصحي بسبب الحرب    أكثر من 53 مليون قاصد للحرمين خلال ربيع الأول    نائب أمير الرياض يستقبل وزير الشؤون الإسلامية    "الشؤون الإسلامية" تواصل جهودها التوعوية في الجعرانة    التحالف الإسلامي يطلق دورة تدريبية لتعزيز قدرات الكوادر اليمنية في مجال محاربة تمويل الإرهاب    المتطوعون يشاركون في احتفالات أمانة الشرقية باليوم الوطني    السلامة الغذائية    تقنية البنات بالأحساء تطلق المسابقة الوطنية للأمن السيبراني    مزاد نادي الصقور السعودي 2025.. خدمات متكاملة تعزز الموروث وتدعم الطواريح    تمادي إسرائيل في حرب غزة ومقترح عماني يدعو لفرض العقوبات    منتدى فكر بجامعة جازان يناقش الوسطية والانتماء    مدرسة ابتدائية مصعب بن عمير تحتفل باليوم الوطني ال95    وزير العدل: التشريع في المملكة يرتكز على الوضوح والمشاركة المجتمعية    الاهتمام بتطوير التجربة الإيمانية لضيوف الرحمن.. «الحج» : التنسيق مع ممثلي 60 دولة للموسم القادم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصائد تستلهم ديوان الحماسة السورية
نشر في الحياة يوم 11 - 04 - 2011

من شتات نصوص عديدة، تنطوي على أساليب شعرية متنوعة، يشيد الشاعر السّوري منذر مصري معمار كتابه الجديد «منذر مصري وشركاه»، الصادر عن دار الغاوون، 2011، ويقدّمُ موسوعة شعرية غير مألوفة، مسكونة بالحذف والنسيان والمحو، تقوم على أنقاض شذرات شعرية، مبعثرة ومخبوءة، لأكثر من سبعين شاعراً سورياً، يُعمل فيها مصري إزميله أو ريشتَه، هو الرّسام المحترف أيضاً، متكئاً على مبدأ التناصّ القصدي، وليس التراسل العفوي، من خلال استنطاقه للنصّ الآخر، واستثمار آليات بنائه، وصقل استعاراته ورموزه، وترميم ثقوبه السوداء، من أجل إعادة بنائه من جديد، والإتيان بنصّ شعري، مؤتلف ومختلف معاً، يشير إلى أصله بقدر ما يبتعد عنه، وينأى عن منبعه، بقدر ما يلتصق به، في لعبة شعرية، غير مسبوقة، تكرّس جمالية المرآة في انكسارها وتهشّمها، وهدم سلطة الأنا كناظم أزلي للإبداع الفني، عبر استعارة صوت الآخر، المختلف، الذي لا تكتمل الأنا من دونه، وعبر تظهير خطاب شعري حداثي، مركّب، وليبرالي، متعدّد الدلالات، لا يتقوقع على ذاته، بل ينفتح على تجربة الآخر، ويعيد صياغة نثراتها النازفة، وصبّها في بوتقة نص جديد، مزدوج الهوية، ثنائي النبرة والأسلوب والرؤيا، وموقّعاً باسم مؤلّفين اثنين هما منذر مصري والشاعرُ صاحب النصّ الأصلي.
والتناصّ مصطلح ارتبط حضوره باسم الناقدة الفرنسية المعروفة جولياً كريستيفا التي نحتته للمرة الأولى عام 1966 لتشخيص العلاقة التبادلية بين النصوص الأدبية، حيث تشير إلى تلك البؤرة اللغوية، التفاعلية، التي تتلاقى في محرقها نصوص أدبية أخرى، تتقاطع وتتواشج، وتستمدّ كينونتها من علاقتها الديالكتيكية، محواً وتدويناً، مع نصوص سابقة ولاحقة، فتتسرّب معانيها وتتفاعل وتفور، وتفيض على حواف البنية الفنية، متجاوزة وهم الوحدة العضوية، وقداسة الإلهام الأول، في تمرّد خلاّق ضد مركزية المعنى الواحد، والأصل الواحد. فالنصّ ليس ظاهرة منفصلة، أو معزولة عن سواه من النصوص، بل يشكّل لوحة متشابكة من الاقتباسات والإحالات، وتتشكّل هويته من تفاعلية نصية غنية، تتجاوز تخوم الجنس الأدبي، بفضل ما تختزنه من طاقة خلاقة على الصهر والاصطفاء، وقدرة خفية على امتصاص مركزية المعنى الواحد وسطوته.
والواضح أنّ منذر مصري ينطلق في موسوعته أو ديوانه من مبدأ جوليا كريستيفا عن التناص الأدبي، مستخدماً استعارة الدبّور الذي «يجني رحيق الأزهار ليصنع العسل» في إشارة إلى كتابة قصائد مأخوذة من حدائق مختلفة، وتحديداً «قصائد شركائي الشعراء السوريين». هذا الرحيق يتقطّر ويتكثّف في بوتقة نص شعري جديد، لا ينفصل بلاغياً عن النصّ الأصلي، وإن حمل بصمة وروح ولغة الشّاعر مصري نفسه. من هذا المنظور، يقوم مصري بخلخلة الفكرة السائدة عن جدلية التأثير والتأثر، والتي تشير، تقليدياً، إلى إلهام خفي يعصف بالمبد ع، على حين غفلة، ويجعله يقع فريسة موهبة شعرية أقوى. يتجاوز مصري ببراعة هذا النوع من التناصّ النفسي، ويذهبُ، عن سابق قصد وإصرار، إلى حدائق زملائه من الشعراء، ليجني عسله الخاص به، مقوّضاً، فكرة الصراع الأوديبي الخفي الذي يحكم علاقة السلف بالخلف، أو الشّاعر بالشاعر، فالتناصّ الذي يقدّمه في موسوعته هو فعل واع وإرادي وموثّق، لا يعتمد على عفوية استرسال الأفكار والخواطر والرؤى، بل ينهض على مهارة الصنعة والمونتاج والصَهر. بهذا المعنى، يكشف مصري توقاً إبداعياً للانعتاق من وهم الفرادة أو الأصالة، الذي يحلو للرومانطيقيين التغنّي به وتمجيده، مقترباً أكثر من روح النص الحداثي، القائم على الكولاج، والمسَرْحَة، وتعدّد الأصوات.
واحتراماً لهذه التعدّدية، يختار مصري شعراء سوريين يكتبون قصيدة النثر في أغلبيتهم السّاحقة، وهو النمط الشعري الذي امتاز به الشاعر منذ ظهور بواكير أعماله في أواسط السبعينات، ليصير ملهماً لشعراء كثر جاؤوا بعده، وبخاصة شعراء النزعة الشفوية، كما يشير المصطلح الذي أطلقه الناقد محمد جمال باروت في كتابه (الشعر يكتب نفسه)، 1981، لتوصيف شعراء السبعينات ممن كسروا علوّ الصوت البلاغي، ونظّفوا الأسلوب الشعري من توتّره الرؤيوي، ملتفتين أكثر إلى سردية التفاصيل المهمّشة والمنسية. وهي النزعة ذاتها التي بشّر بها منذر مصري إلى جانب شعراء آخرين من أمثال عادل محمود وبندر عبد الحميد ونزيه أبو عفش، وجاءت، نسبياً، لتطبع بنبرتها نصوصه المختارة، رغم تباين الأصوات والنزعات والرؤى التي تميّز أصحاب النصوص الأصلية. وإذا كان مصري يعترف بأن هذه التجربة غير مسبوقة في حياته، «ليس فقط الكتابة بآساليب الآخرين وأدواتهم، بل بكلماتهم وأحاسيسهم وأفكارهم»، فإنه يعيد صياغة تلك النصوص بأسلوبه هو، مضفياً عليها نبرته، وولعه بالتنويع الأسلوبي، وعنايته بالمشهد البصري، الذي يحيل إلى جنة الحواس، لا الأفكار والمفاهيم والرؤى، مستفيداً كثيراً من خبرته في الرّسم، وفهمه المبتكر لفلسفة اللّون والطيف والضوء، فضلاً عن هوسه بنقل نبض الفضاء العام، في الزّمان والمكان، وتدوين سيرة النص في العالم.
وإذا كان مصري يشير إلى تجارب فنّية مشابهة تقوم على كولاج يدمج تجارب فنانين آخرين، مثل بيتهوفن الذي أنجز تنويعات على أعمال موزارت، وفان كوخ الذي أعاد رسم أعمال ميليه، فإنّ موسوعته تقوم، في جوهرها، على امتصاص روح قصائد شركاه من الشعراء، وتظهير ما فشلت ربّما في الإفصاح عنه، ليس تقليلاً من شأنها، كما ظنّ أو يظنّ البعض، بل رغبة في لفت الانتباه إليها كنصوص تترك أثراً لا ُيمحى أثناء قراءتها الأولى. بمعنى آخر، ليست غايته طمس الأصل، أو تشويهه، كما اتهمه بعض المعترضين، بل هو يسعى إلى استنطاق لحظات خرسها، وتوسيع أفقها، وهذا ينطبق على أي نصّ نقرأه، سواء أردنا تدوين انطباعنا عنه أم احتفظنا به في سرّنا. بل يمكن القول إن تجربة القراءة ذاتها ليست سوى إعادة تدوين، صامت ومكتوم، للنصوص التي نقرأها. فالشاعر الأميركي إليوت، لم يجد غضاضة في رائعته التراجيدية (الأرض الخراب)، أن يعيد، شعراً، قراءةَ الموروث الشّعري الغربي في نصّه، إذ تحضر في أبيات قصيدته إحالات لا حصر لها، مستلّة من شكبسير وسبنسر وبودلير ودانتي، ومن نصوص مقدسة مشرقية وغربية.
إلاّ أن منذر مصري لا يوظف إحالاته بالطريقة ذاتها، إذ يتحول الاقتباس الشعري لديه إلى نص جديد، قائم بذاته، مستقل عن أصله، له كينونة على الصفحة البيضاء، يمحو الأصل بقدر ما يشرعنه، ومن هنا فرداة هذه التجربة. وإذا كان الشاعر السوري محمد عضيمة قد سبق له وأصدر مختارات شعرية مشابهة من حيث الشّكل، من كونها تقوم على قطف أو اجتزاء عبارة من هنا، وجملة من هناك، إلاّ أنه، وعلى نقيض مصري، لم يكن يغير شيئاً من أصل اقتباسه، بل يُبقي عليه نسخةً حرفيةً عن المصدر الأمّ. وإذا كان عمل عضيمة يقترب في منهجيته من الموسوعة الشعرية التي أعدّها أدونيس مؤخراً في كتاب (ديوان البيت الواحد)، من خلال تركيزه على ذرى شعرية فائقة، وفريدة، فإنّ منذر مصري، بحسب رأيي، يذهب أبعد من الإثنين معاً، ويتجاوزهما في التجريب، موسّعاً هامش اللّيبرالية الشعرية، من خلال تمجيد الصّوت الآخر، وإظهار حضوره في الأنا، كأنمّا في تأويل مبدع لفكرة الشاعر الإنكليزي شللي، الذي لطالما اعتقد بأن الشعراء جميعاً يشتركون في كتابة قصيدة واحدة، هي دوماً في طور التدفّق والنمو. والحق أن منذر مصري، ابن البحر المتقلّب العاصف على شاطئ مدينته اللاذقية، يوسّع هامش التشاركية النصّية في موسوعته الجديدة، معيداً صياغة الاقتباس، بأدوات شركاه من الشعراء، راسماً علامة استفهام كبيرة أمام مفهوم النرجسية الإبداعية، التي دأبت الرومانطيقية الشعرية على إضفاء هالة من التقدّيس عليها، وإسقاطها على نصوص أدبية، لا يمكن عزلها عن سياقها التاريخي والإنساني، المتبدّل والمتقلّب في الزمان والمكان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.