«إقرأ يا ابني إقرأ...»... يقول العجوز الفلسطيني لحفيده الجالس قربه في مخيم فلسطيني على أطراف مدينة في جنوبلبنان. ويتابع الفتى القراءة في صحيفة مضت على تاريخ صدورها بضعة أيام: «... ورفع الرئيس محمود عباس أمس، وإلى جانبه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون وعشرات المسؤولين العرب والأجانب، علم فلسطين أمام مقر الأممالمتحدة في نيويورك إلى جانب أعلام الدول ال 193 الأعضاء في الأممالمتحدة. ألقى العجوز الفلسطيني عصاه إلى جانبه ليصفّق بكفيه المرتجفتين، ثم قال لحفيده: إقرأ يا ابني إقرأ. وتابع الحفيد القراءة: وأعلن الرئيس محمود عباس أمس أن الجانب الفلسطيني لا يمكنه الاستمرار بالتزام الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل إذا بقي الاحتلال مصراً على عدم الالتزام بها. «متى أعلن الرئيس عباس هذا؟...» سأل العجوز الفلسطيني. فقال الحفيد: يوم الأربعاء في 30 أيلول (سبتمبر) 2015. همهم العجوز الفلسطيني، وسأل حفيده: وماذا بعد في هذه الجرايد؟ قلّب الفتى الصحف القديمة التي بين يديه فاستوقفه عنوان بالخط العريض عن نكبة اللاجئين السوريين الهاربين إلى ألمانيا، فسأل جده ما إذا كان الموضوع يعنيه، فقال الجد: إقرأ يا ابني إقرأ. وراح الفتى يقرأ ما كتب غسان شربل في «الحياة» من 21 إلى 23 أيلول الفائت: «تستبعد ناريمان أن ترجع إدلب إلى ما كانت عليه. وتقول: بدأت البارحة مع زوجي دورة لتعلّم اللغة الألمانية على حساب الدولة هنا»: وتضيف أن التعامل جيد، والطعام متوافر ولو كان مختلفاً عن مذاق أكل بلادنا. والتطبيب مؤمن. في البداية أعطونا 1008 يورو لمدة 40 يوماً. أعطونا أيضاً ملابس للشتاء. وسيسجلون الأولاد في المدرسة قريباً. وقد أخذتنا الموظفة الألمانية في جولة في المبنى. أطلعتنا على الطابق المخصص للعائلات التي أصيب أحد أفرادها بإعاقة. غرف مجهّزة للعب الأطفال، فضلاً عن تجهيزات في الحديقة». هنا يشير العجوز الفلسطيني إلى حفيده بالتوقف عن القراءة، ثم يشد كفيه على مقبض عصاه ويحني رأسه بين ساعديه، ويقول بصوت مجروح: آخ. سبع وستون سنة مرّت على نكبة فلسطين ولا يزال سطح بيت العجوز الفلسطيني صفيحاً، وأرضه حصيراً في بلاد الأهل والأخوة في العروبة في لبنان، كما في أرجاء «الوطن الأكبر». قليلاً بات عديد الجيل الذي عاش نكبة فلسطين الأولى. فتية، وشباناً، وكهولاً، وأطفالاً كانوا حين دهمتهم جحافل العصابات الصهيونية من داخل فلسطين ومن خارجها. منهم من قاوم وصمد حتى آخر طلقة. ومنهم من استشهد داخل البيت أو على باب الدار، ومنهم من قضى غدراً، ومنهم من بقي حياً في الأسر ومات في زنزانته، فكان موته شهادة، وكان أفضل من العيش لاجئاً في مخيمات البطالة والعوز والحرمان من الأمل. في متاهة السوريين الفارّين من جور حاكمهم عبر البراري والبحار صور مآسٍ كان لها مثيل في المتاهة الفلسطينية، لكن الفارق بين المتاهتين، أن الأولى كانت مؤامرة صهيونية أميركية أوروبية، أما الثانية فإنها جريمة «وطنية قومية» متمادية بطلها نظام فردي مستبد، له أعوانه في الداخل، وحماته في الخارج، وهؤلاء جرمهم أفظع لأنهم يشاركون في القتل والتدمير والذبح تحت رايات الإيمان ودعم سيادة الدولة والقانون. من دون حروب ودمار وموت كان سبعون في المئة على الأقل من السوريين يتطلعون إلى فرصة تقودهم إلى ديار الغرب الأوروبي، وقد جاءت بعضهم الفرصة، لكن بعدما عانوا أبشع ما كان يتصوّر أحد منهم. «ماما مركل» هذا لقب أحرزته الرئيسة الألمانية التي أعطت اللاجئين السوريين فرصاً ومساعدات وتسهيلات لم يحظ بمثلها، أو بما يقاربها، أي لاجئ في دول أخرى. ووفق التوقّعات والتقديرات فإن عدد اللاجئين السوريين إلى ألمانيا قد يبلغ السنة المقبلة نحو مليون لاجئ، هذا إذا استمرت الرئيسة أنغلا مركل في كرمها وفي زيادة رحابة بيتها. أما الكلفة فسوف تبلغ نحو ستة بلايين يورو، وهذه مكرمة. هي مكرمة لأن ألمانيا، كما أي دولة غير عربية أو غير إسلامية، ليست ملزمة بواجب على هذا المستوى. فالمملكة العربية السعودية التي ليس من عادتها أن تعلن دائماً عن مساعداتها للمنكوبين من العرب وسواهم كشفت أخيراً عن استقبالها أكثر من مليونَي سوري، وقد أمّنت لهم فرص العمل والعيش الكريم. ثم إن ألمانيا لا تخفي حاجتها المتصاعدة إلى اليد العاملة، وهي إحدى الدول الأوروبية القليلة التي تحافظ شعوبها على نسبة ضئيلة في معدل الإنجاب. ولذلك تطمئن «ماما مركل» مواطنيها بأن اللاجئين السوريين، وسواهم من الشعوب الأخرى، لن يتسببوا في تقليص الخدمات للألمان أو زيادة الضرائب عليهم. أما الرئيس الأميركي أوباما فقد حجز حصته من اللاجئين السوريين معلناً استعداده لإيواء مئة ألف منهم خلال سنتين. ولطالما هم نددوا بالاستعمار والاستئثار بمقدّرات الشعوب المغلوبة على أمرها بحكامها وبمن يحكمهم، من داخل ومن خارج. لكن صورة واحدة من آلاف الصور التي عمّت الكون منذ بدء مسيرة الكارثة السورية نحو الغرب، كانت كافية لتسجيل هزة ضمير إنسانية جعلت العالم يتوقف ليلقي نظرة. كانت تلك صورة الطفل «إيلان» الغارق في غفوته ما بين الرمل والبحر على الشاطئ التركي، وكأن البحر غصّ بإيلان فأعاده إلى البر ليشهد على الجريمة بحق شعبه وبلاده. لقد احتلت صورة «إيلان» الضمير العالمي وراحت تحفر عميقاً في قلب من يتأملها فلا يستطيع إلا أن يعود ويتأملها مدفوعاً بالحاجة إلى استنزال المزيد من اللعنة والغضب على من هو السبب، وعلى من هو معه وحوله. صورة «إيلان» في غفوته التي لا يقظة منها إلا ساعة سقوط السبب والمسبب قد تتحوّل طابعاً بريدياً عالمياً يروح يحفّز الضمير السياسي والإنساني الدولي على الثأر العادل لسورية الشهيدة ممثّلة بقامة طفل. لم يبلغ «إيلان» شاطئ الغرب، لكنه بلّغ الغرب رسالة فحواها أن «سورية» سوف تلحق به إن لم تنقذها دول الغرب الموصوفة بالحرية والديموقراطية وبالعدالة والإنسانية. وحتى الآن لا تزال سورية حيّة، ولا تزال دول الغرب قادرة على إنقاذها. لكأن ذلك الغرب الموصوف أيضاً ب «الإمبريالي» هو المسؤول أولاً وأخيراً عن نكبة سورية بعد نكبة فلسطين. وهذا صحيح. وصحيح أيضاً أن الولاياتالمتحدة الأميركية هي الراعية الدائمة للكيان الإسرائيلي والضامنة استمرار تفوّقه على كل العرب في كل الحروب. لكن حرب سورية قلبت الموازين وخلطت المفاهيم التي تفرّق بين دولة صديقة أو حليفة ودولة متآمرة أو معادية. فموسكو تتابع حربها في سوريا، وعليها. ولا ضرورة لتكرار تأكيد المؤكد. ولا جديد في الموقف الروسي من المحنة السورية سوى أن قيصر الكرملين احتل الفضاء السوري بعدما احتل الموانئ البحرية وملأها بوارج حربية، وقد أصبح ضباطه الإستراتيجيون يجلسون في غرف قيادة المعارك مع قيادات النظام. وإذا استهجن أحد الأقطاب من العرب أو من الغرب هذا الانخراط الروسي في المحنة السورية إلى هذا الحد يأتي الرّد من الكرملين بما معناه أنهم يحاربون الإرهاب، وكأنهم يقولون: إذا كان عدوّكم «داعش» فنحن عدوّ عدوّكم.. وإذن نحن أصدقاء، بل حلفاء! لكن الواقع هو أن روسيا الدولة العظمى تحوّلت حصناً لنظام قاتل ضد شعب قتيل. وفي هذا الوقت يتقدّم الغرب «الإمبريالي» الأوروبي باسطاً يد التعاون والمعونة للنهوض بعبء اللاجئين السوريين المتدفقين نحو أوروبا، براً وبحراً. ولعل بين تلك الآلاف التي كان لها حظ اختراق الحدود الأوروبية من يتذكّر عذابات آلاف أخرى كانت، ولا تزال، تقف في طوابير الانتظار على أطراف حرم السفارات الأجنبية في كل العواصم العربية، لعلها تفوز بتأشيرة دخول الى أي بلاد في الغرب. لكن أيّاً تكن النتيجة فإن ذلك الغرب مستمرٌ في إجراءاته لإيواء ما أمكنه من اللاجئين السوريين وكأنه يعمل لتبييض صفحته العربية، وهو يبيّض صفحته فعلاً، وهذا ما تعنيه الصور/ الرسائل التي تأتي من «الوطن البديل» إلى من بقي في الوطن الأصيل». وأيّاً تكن غاية الغرب فإن موقفه في مجال حقوق الإنسان يتقدّم بأشواط على موقف الرئيس الروسي الذي يستمرّ في عناده ضدّ حقوق الشعب السوري وكأنه يراهن على أن هذا النظام الذي يدافع عنه في ما بقي له من دمشق، ومن سائر المناطق، سوف يتمكّن من الصمود وقتاً إضافياً طويلاً. لكن، للسوريين، كما لسائر العرب، ذاكرة. فقبل ربع قرن بالتمام انهار جدار برلين الذي كان رمز الانفصال بين الغرب الديموقراطي والشرق الشيوعي. ولم تكن قد مضت أسابيع قليلة حتى تداعت الإمبراطورية السوفياتية بدءاً من دول أوروبا الشرقية التي تحوّلت في زمن قصير جمهوريات ديموقراطية. تلك المرحلة لا تغيب حتماً عن بال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الموصوف بالذكاء والشجاعة والعناد. ولا بد أنه يدرك أن النظام الذي يحميه في دمشق لن يصمد طويلاً. كما يدرك أن سورية، البلاد والشعب والكيان، لن تعود من جديد كما كانت، وأن الرهان الناجح هو على حصّته ودوره في مستقبل سورية. لكن هناك شريكاً له مضارباً هو إيران. وحتى الآن لا يبدو الرئيس الروسي مستعجلاً. * كاتب وصحافي لبناني