بينما تخطو المملكة بخطى واثقة نحو مستقبل طموح؛ تقوده رؤية 2030، لا تزال بعض تخصصاتنا الجامعية أسيرة الماضي، تخرّج أجيالًا تحمل شهادات أنيقة، لكنها تصطدم بعد التخرج بجدار البطالة. ليست المشكلة في الشباب ولا في اجتهادهم، بل في تخصصات فقدت مواءمتها مع سوق العمل، ولم يعد لها أثر في تلبية احتياجات التنمية الوطنية، أو فتح مسارات حقيقية أمام الخريجين. إن المعرفة في ذاتها قيمة لا غنى عنها، لكن السؤال الصريح هو: إلى متى يستمر نزيف التخصصات التي لا يجد أصحابها موطئ قدم في سوق العمل؟! كم من خريج أمضى سنوات من عمره في دراسة تخصص لا يطلبه أحد، ليجد نفسه في طابور انتظار طويل؟ هنا تتجلى مسؤولية الجامعات، التي لم يعد يكفيها فتح التخصصات بدافع الإقبال الطلابي أو التقاليد الأكاديمية، بل بات من الضروري أن تسأل منذ البداية: ماذا بعد التخرج؟ وما الجدوى الاقتصادية والاجتماعية لهذا التخصص؟ المؤسف أن بعض الأصوات التي تطالب بالإبقاء على هذه التخصصات، تفعل ذلك بدوافع شخصية أو وظيفية أكثر من كونها وطنية أو أكاديمية. وكأن مستقبل الأجيال يُضحّى به من أجل راحة الحاضر، وهو منطق يكرّس البطالة بدل أن يعالجها. ولمعالجة هذا الخلل، لا بد من مراجعة جذرية للخريطة الأكاديمية، حيث يمكن أن تتحول بعض التخصصات النظرية إلى مسارات دراسات عليا فقط، لتبقى فضاءات بحث وتأمل، بدل أن تكون مصانع لتخريج العاطلين. كما أن دمج هذه التخصصات بتطبيقات تقنية ومهارية، يمثل خطوة ضرورية؛ مثل الإعلام الرقمي والتاريخ الذكي واللغة والذكاء الاصطناعي. وإلى جانب ذلك، فإن وضع خطة تدريجية لإنهاء التخصصات غير القابلة للتوظيف، مع مراعاة حقوق الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، وإشراك القطاع الخاص في صياغة البرامج عبر لجان استشارية دائمة، كفيل بربط التعليم بحاجات السوق الحقيقية. وليس هذا التوجه بدعة، فقد سبقتنا إليه دول عدة. في فنلندا مثلًا أُغلقت تخصصات لا صلة لها بسوق العمل، وجرى توجيه الموارد لمجالات حيوية؛ كالذكاء الاصطناعي والهندسة الحيوية. وفي سنغافورة لا يُفتح أي تخصص جامعي من دون خطة موثقة لفرص التوظيف المستقبلية المرتبطة به. أما في أستراليا فقد قلّصت عدد التخصصات، مركّزةً على إعداد خريجين بمهارات شاملة تواكب وظائف المستقبل بدلًا من وظائف الماضي. أيضًا، إن بقاء تخصصات غير مواءمة يعني أننا نخرّج العاطلين عمدًا ونرسّخ بطالة مقنّعة لا تخدم الوطن ولا المواطن، بينما نحن بحاجة إلى تعليم يخرج مواطنًا منتجًا يقود التحول، لا خريجًا يقف في طابور الانتظار. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل نملك الشجاعة للمراجعة الصادقة قبل أن يفوت الأوان؟ فمستقبل الأوطان لا يُبنى بشهادات عاطلة، بل بتعليم يفتح أبواب العمل، ويصنع جيلاً يقود التنمية بثقة.