التكنوقراطية مفهوم سياسي نشأ في بداية القرن العشرين في الولاياتالمتحدة وبلدان اوروبا الغربية لمواجهة الأزمات التي عصفت باقتصاديات هذه البلدان ومهدت لصعود النازية في أوربا الغربية لاحقا. لذلك ارتبط هذا المفهوم دائماً بوجود أزمة ما سياسية أو اجتماعية للنظام السياسي القائم بغض النظرعن توجهات هذا النظام السياسية أو الأيدولوجية تقتضي التنادي لتشكيل «حكومة تكنوقراط». ذلك ما يسهل فهم معنى التكنوقراطية. فهؤلاء التكنوقراط من الشخصيات المعروفة بالكفاءة المهنية المتخصصة واتساع الأفق المعرفي يشكلون عماد وزراء الحكومة وبخاصة في مجالات الاقتصاد والتجارة والعلوم والتقنية والتخطيط ومشاريع البنية التحتية. مرت أوروبا بهذا النوع من الحكومات التي بقيت «مؤقتة» حتى استعادت الديمقراطية عافيتها والأحزاب السياسية قوتها بعد الحرب العالمية الثانية. ومع توالد الأزمات، وانعكاس ذلك على المجتمعات، بدأت الخلافات من جديد بين الأحزاب ومن ثم داخل كل حزب، فجاءت حكومات «الائتلاف» بين الأحزاب أو بين عدد منها كما هو حاصل الآن في أغلب بلدان أوروبا الغربية والبلدان الاسكندنافية. وبالرغم من بقاء الولاياتالمتحدة وبريطانيا وحتى فرنسا خارج هذا المسار، إلا أن بذور الانقسامات في كل الأحزاب موجودة وصارخة أحيانا كما هو الحال اليوم في فرنسا، حيث يتنافس سبعة قياديين من حزب واحد (الحزب الجمهوري) على الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة 2017. ما يهدد بلدان الديمقراطية، والديمقراطية هناك، ليس مزيدا من الانقسامات واللجوء ل «حكومات التكنوقراط» بل هو انبعاث مفهوم سياسي أخطر جرى الاعتقاد بدفنه مع فظائع الحرب العالمية الثانية، وهو مفهوم الشعبوية السياسية المتطرفة الذي يملك اليوم في معظم بلدان أوروبا ليس فقط أحزاباً سياسية نافذة وحاضنة اجتماعية متنامية كما هو الحال في فرنسا والنمسا بل وأمريكا- إذ رأينا مدى شعبية ترامب - ومعظم بلدان اوربا الشرقية بما فيها روسيا وبوتين. الشعبوية السياسية تقوم على التلاعب العاطفي بمشاعر الناس عبر توظيف مفهوم خدمة «الشعب» الموجود في أذهان الشعبويين فقط والاعتداد الكاذب بأنهم هم ككفاءات فنية ومعرفية «متخصصة»- تكنوقراطية خارج الأحزاب السياسية الفاسدة، قادرون على أن يكونوا الحل. وبما أن ما يدور في العالم المتقدم يمس بلداننا بايجابيته وسلبياته في الحروب وأشكال الهيمنة وفي مشاريع التنمية أيضا، تبدو استفادة إدارتنا لمواجهة الأزمات نقلاً مجتزئا لجوانب من خططهم هناك وتقعيدها على أوضاع طاردة لحمولاتها المعرفية. لو رأينا ما يحدث اليوم في حكومات «التآلف» المتعدد في بلدان المغرب العربي- وهو النموذج الإيجابي- وقرأنا خطاب وسلوك المتآلفين، لرأينا كم هو معقد طريق الإصلاح والعزاء الوحيد أن الجميع هناك، قبلوا عن وعي ضرورة التعددية والمشاركة. أما فكرة المواءمة بين الشعبوية -دغدغة عواطف الناس- بدعاوى تكنوقراطية مخلصة- بكسر اللام وتشديدها- فتبدو قفزةً خطرة للأمام تقوم فقط على حسن النية وربما تحقق بعض النجاحات الجانبية لكن بأثمان باهظة. يكفي أن نتذكر ما آلت إليه تجارب الدول الأخرى في العديد من الدول النامية التي مرت بتجارب شبيهة للانخراط في مشاريع تنموية فاشلة في بلد وناجحة في بلد آخر. في أمريكا الجنوبية، حققت تشيلي تحت حكم عسكري صارم وبحكومات تكنوقراطية منتقاة قفزة نوعية في الاقتصاد، سرعان ما تآكلت جراء تكلفتها الباهظة على الناس واقتضى تخليصها من شوائب التكنواقراط سنين حتى استعادت عافيتها. سوسة شعبوية صدام حسين وابويته على تكنوقراطيين لامعين، أوصلته إلى نهايته وتدمير العراق. ماليزيا اختارت الطريق الآمن لدولتها وشعبها وأنجزت الكثير. الأمثلة على طريق النمو المتوازن ممكنة في كل مكان. بلادنا، بقيادتها الحكيمة وتكنوقراطييها البارزين، تستطيع قبل غيرها، الانخراط في مسارات آمنة. بلادنا جديرة بالوصول إلى طموحات القيادة الخيرة وطموحات شعبها الملتف حول دولته وقيادته بكل ما وعدت به في الماضي والحاضر من حرص على مشاركة الناس بكل ما يعود على البلد واهله بالخير للجميع دون تمييز.. بلادنا تمر اليوم بظروف استثنائية صعبة. هذه الظروف مرت على غيرنا ولسنا بدعاً في هذا العالم. كثير من المخلصين في بلادنا كانوا يفضلون التسريع في مسيرة التنمية والانخراط في قوافل التقدم. دولتنا تستطيع المواءمة بين التسريع والحذر في ظل الظروف المتجددة على المسرح الإقليمي والدولي. في دول المنطقة، السعوديون اليوم لا تربطهم بالخارج سوى المشاعر الأخوية والإنسانية والدعم السلمي لكل ما فيه خير دون التدخل في شؤونهم مع الحرص المتبادل على عدم رفع الخصومات إلى مستوى العداء إلا لمن تعدى حدوده.