في سحب الأذان الأولى، حين يشق صوت المؤذن سكون الفجر، ينهض المسجد كأنه قلب الوطن النابض، ومشكاة الأمة الوضاءة، وسارية الهوية التي لا تنحني. هنالك، حيث يلتقي العبد بربه، يلتقي المواطن بأخيه، وتنصهر الفوارق كما تنصهر المعادن في أتون النار؛ فيخرج المرء أصلب عودًا وأرسخ انتماءً، ويغدو أشد تماسكًا وأوفى عهدًا. إن المسجد ليس حجارة مشيدة ولا قبابًا مزخرفة، بل هو روح حية ولسان صارخ وذاكرة خالدة وأفق مفتوح على السماء. تأمل الصفوف المرصوصة حين يركع الناس جنبًا إلى جنب، فلا يزيد الشريف على الوضيع، ولا يتقدم الغني على الفقير، ولا يتميز القوي عن الضعيف؛ إنما الكل سواء، قد جمعتهم قبلة واحدة وكلمة واحدة ونور واحد. تلك الصورة ليست طقسًا عابرًا، بل درس خالد: أن الوحدة ليست شعارًا يتلى، بل تجربة حية تستعاد خمس مرات في اليوم، ليخرج الناس وقد أيقنوا أن الوطن لا يشاد على الشتات ولا يبنى على التنافر، بل يقوم على صف مرصوص يشد بعضه بعضًا كالبنيان المرصوص. ومن فوق عرش المنبر ينهض الخطيب كأنه حارس الأمة ولسان رسالتها، لا يلقي كلمات باردة ولا يعيد نصوصًا مكررة، بل يسكب وعيًا صافيًا، ويشعل عزيمة وقادة، ويذكر القلوب أن الوطن أمانة، وأن حمايته عبادة، وأن التفريط فيه خيانة لله قبل أن تكون خيانة للتاريخ. فالمنبر ليس خشبًا منسوجًا، بل سيف من نور يقطع دابر الفتنة، وترس من بيان يصد عن القلوب سهام التضليل، وهو جرس الوعي الذي يوقظ الضمائر كلما غفت على وسادة الغفلة. وإذا أطلت الفتن بوجهها الكالح على الأوطان كانت كالطوفان يقتلع ما أمامه، غير أن المسجد يقف سدًا راسخًا وصخرة صلدة تتحطم عندها أمواج التضليل. هناك يقال للناس: إياكم والتنازع فإنه خراب، وإياكم والانقسام فإنه هدم، وإياكم أن تتركوا للعدو ثغرة يدخل منها فيمزق وحدتكم. فيغدو المسجد قلعة حصينة وموئلًا راسخًا وميدانًا تتكسر عنده نصال التطرف وأنياب الفرقة. ولقد شرّف الله المملكة العربية السعودية بخدمة بيته، فجعلها الحارس الأمين للحرمين الشريفين، فعمّرت أروقتهما ووسّعت ساحاتهما وأعلت منائرهما وهيأت لزوارهما ما يليق بمقام المكان وشرف الرسالة. ومن مكةالمكرمة والمدينة المنورة انطلق إشعاع المملكة إلى بقاع الأرض، تبني المساجد وتجدّدها وتعلو منابرها، حتى غدت بحق مشكاة العالم الإسلامي ومهوى أفئدته، تحرس وحدته وتشُد أواصره. وهنا يجيء الدور المشرق لوزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، فهي الامتداد المؤسسي لرسالة المسجد والجسر الذي يصل بين المنبر والواقع والسارية التي ترفع لواء الهداية عالية في سماء الوطن والأمة. فمن خلالها ينتقى الخطباء، وتضبط الكلمة، وترعى البرامج، وتوجّه المناشط الدعوية والتوعوية، لتبقى منابر الحق مصابيح هدى وسدودًا منيعة أمام الانحراف. إنها اليد الحانية التي تسند رسالة المسجد، والعين الساهرة التي تذود عن قدسيته، والقلب الكبير الذي يضخ فيه روح الاعتدال والوسطية. ولم تقف رسالة الوزارة عند حدود الوطن، بل تجاوزتها إلى الآفاق، عبر معارض القرآن الكريم وطباعة المصاحف وتوزيعها ورعاية المؤتمرات الدعوية، حتى غدت صورة ناصعة للمملكة وهي تؤدي رسالتها الخالدة وتبسط جناحها على الأمة كلها. وهكذا غدا المسجد، بفضل الله أولًا ثم بعناية الدولة ورعاية وزارة الشؤون الإسلامية، مصنع الانتماء وميدان الولاء، تغرس فيه الجذور العميقة للوطن؛ فينشأ الطفل وهو يراه حرزًا لا يفرط فيه، ويشب الشاب وهو يعدّه شرفًا لا يساوم عليه، ويشيخ الكبير وهو يعلم أن الدفاع عن حرماته امتداد لطاعته لربه. إن الانتماء للوطن في المسجد لا يلقن تلقينًا باردًا، بل يسكب في القلوب كما يسكب النور في المشكاة، ويجري في العروق كما يجري الدم في الشرايين. وهكذا فإن رسالة المسجد في توطيد اللحمة الوطنية ليست عرضًا يستدعى في الملمات، ولا ذكرى تستحضر في الكوارث، بل هي عهد خالد يتردد مع كل أذان، ويتجلى مع كل خطبة، ويجسد مع كل صف مصطف بين يدي الله. وإن المملكة العربية السعودية - وهي قبلة المسلمين ومأرز الإيمان - لترعى هذا العهد بكل ما أوتيت من قوة ووفاء، عبر مؤسساتها المباركة وفي طليعتها وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، لتبقى المنابر شاهقة، والكلمة صادعة، والوطن متماسكًا كالبنيان المرصوص. فالمسجد، في ظل هذه الرعاية الراسخة، سيظل العروة الوثقى والنبراس المضيء والسور المنيع ومصنع الأمجاد الذي تشيد به الأوطان وترفع به الرايات ويُبنى به صرح المجد الخالد الذي لا يزول، ما دام في الدنيا أذان يجلجل، ومنبر يصدع، وأمة تهتف من أعماق قلوبها: الله أكبر، وللوطن العزة والخلود.