إذ كان العرب والمسلمون قد استقبلوا كتاب المفكر والأكاديمي الأميركي المعروف صموئيل هنتينجتون قبل الأخير "صدام الحضارات" بالقلق والرفض الواسعين لترويجه فكرة أن الصراع العالمي القادم سوف يكون صراعا بين الحضارة الغربية من ناحية وحضارات الشرق وعلى رأسها الإسلام من ناحية أخرى، فإنه حري بالعالمين العربي والإسلامي الانتباه لنظرية أخطر يروجها هنتينجتون في كتابه الجديد "من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأمريكية" الصادر في مايو/ايار 2004 بالولاياتالمتحدة نظرا للدور الذي ينادي هنتينجتون بأن يلعبه الإسلام كدين وحضارة في تشكيل الهوية الوطنية الأمريكية خلال الفترة الراهنة وفي المستقبل المنظور. فعلى الرغم من أن هنتينجتون لا يرى - في كتابه الجديد - أن الإسلام هو أحد التحديات الأساسية التي أدت إلى تراجع شعور الأمريكيين بهويتهم الوطنية خلال العقود الأخيرة، إلا أنه يرى أن العداء للإسلام والحضارة الإسلامية قد يساعد بشكل كبير في تحقيق التفاف الأمريكيين المنشود حول هويتهم الوطنية في المستقبل المنظور. مصادر الهوية الوطنية الأمريكية يرفض هنتينجتون في كتابه فكرة أن الولاياتالمتحدة هي مجتمع من المهاجرين متعددي الأعراق والإثنيات والثقافات، ويرى على النقيض أن الأمريكيين الذين أعلنوا استقلال أميركا عن الاستعمار البريطاني في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي كانوا مجموعة متجانسة من المستوطنين البريطانيين البروتستانت الذين توافدوا إلى العالم الجديد من أوربا وخاصة بريطانيا لكي يستقروا فيه ويعمروه للأبد. ويرى هنتينجتون أن هؤلاء المستوطنين وضعوا بذور المجتمع الأميركي انطلاقا من مبادئهم وثقافتهم الأنجلو-بروتستانتينية والتي لولاها لما قامت أميركا التي نراها اليوم، ولذا يرى هنتينجتون أن لأميركا هوية محددة هي هوية هؤلاء المستوطنين والتي تقوم على ركائز أربع أساسية وهي العرق الأبيض، والإثنية الإنجليزية، والدين المسيحي البروتستانتي، والثقافة الإنجليزية البروتستانتينية. ويعتقد هنتينجتون أن الخصائص الأربعة السابقة انعكست بوضوح على كافة خصائص المجتمع والدولة بالولاياتالمتحدة، وظلت سائدة حتى نهاية القرن التاسع عشر تقريبا، وأن موجات الهجرة المختلفة التي أتت أميركا منذ نشأتها وحتى أوائل القرن العشرين تقريبا سعت للذوبان في هذه الهوية واعتناقها بشكل واضح وسريع فور استقرارها في أميركا. كما يرى هنتينجتون أن الهوية الأمريكية استفادت تاريخيا من ركيزتين إضافيتين، أولهما الأعداء الذين حاربهم الأميركيون على مدى التاريخ بداية من الهنود الحمر والمستعمرين الفرنسيين ثم المستعمرين البريطانيين، مرورا بسعي الأمريكيين التاريخي المتواصل لتمييز أنفسهم والحفاظ على استقلالهم عن القارة الأوروبية بشكل عام وعن القوى الأوروبية الاستعمارية الأوروبية بشكل خاص، وانتهاء بالحرب الباردة وصراع الولاياتالمتحدة مع الإتحاد السوفيتي في النصف الثاني من القرن العشرين. وهنا يعبر هنتينجتون بصراحة عن اعتقاده بأن العداء للأخر يلعب دورا أساسيا في تشكل هوية أي جماعة، ويرى أن الحروب التي خاضها الأوروبيون في العصور الوسطى وقبل بداية عصر الدولة القومية كانت ضرورية لتشكيل هوية الدول الأوروبية المختلفة، كما يرى أن وجود الإتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية وشعور الأمريكيين بتهديده وسعيهم الواضح لمواجهته والانتصار عليه لعب دورا هاما في وحدة الأمريكيين والتفافهم حول هويتهم الوطنية خلال الحرب الباردة. أما ثاني هذه الركائز الإضافية فهي عقيدة الأمريكيين السياسية، فلكي يميز الأميركيون أنفسهم عن أجدادهم البريطانيين سعوا - كما يعتقد هنتينجتون - لنشر ثقافة سياسة مستقلة ومتميزة عن ثقافة الأوروبيين الإقطاعية والتمييزية والتي اضطرتهم إلى ترك أوروبا للأبد والفرار بمعتقداتهم إلى الولاياتالمتحدة، ومن أهم عناصر هذه العقيدة السياسية مبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية النيابية واحترام الحقوق والحريات الدينية والمدنية، وسيادة حكم القانون. تحديات الهوية الوطنية الأمريكية في المقابل يرى هنتينجتون أن الهوية الأمريكية واجهت خلال العقود الأخيرة وخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين عددا من التحديات الضخمة التي أضعفت من التفاف الأمريكيين حول هويتهم بشكل يمثل تهديدا لبقاء الهوية الأمريكية واستمرارها، ومن أهم التحديات التي رصدها هنتينجتون ما يلي: أولا: التقدم في وسائل الاتصالات والمواصلات، والذي أدى - كما يرى هنتينجتون - إلى ربط المهاجرين الجدد إلى الولاياتالمتحدة بمجتمعاتهم القديمة بشكل قوي وغير مسبوق مما أضعف من اندماجهم بالمجتمع الأميركي وسهل عملية تواصلهم مع مجتمعاتهم الأصلية وشجع المهاجرين الجدد على الحفاظ على ثقافاتهم الأصلية وهوياتهم الأجنبية ومحاولة نشر هذه الهويات بين أبناء بلدانهم في أميركا، مما أدى إلى نشر عدد كبير من الهويات الأمريكية الفرعية مثل هوية اللاتينيين الأمريكيين على سبيل المثال مما يعد تهديدا خطيرا للهوية الأمريكية. على صعيد آخر يرى هنتينجتون أن تقدم أدوات الاتصال والمواصلات وقوى العولمة أدت إلى انفتاح النخب الأمريكية الاقتصادية الكبرى بشكل غير مسبوق على العالم، ويرى هنتينجتون أن هذه النخب بدأت في تكوين هويات فوق-قومية تتخطى الهوية الأمريكية، إذ تنظر هذه النخب والهيئات لهوياتها - بشكل متزايد - نظرة عالمية ترتبط بمصالحها الاقتصادية المنتشرة عبر بقاع العالم، ونظرا لنفوذ هذه النخب الكبير فإنها قادرة على نشر أفكارها وهويتها المتخطية للهوية الأمريكية على نطاق واسع مما يمثل تهديدا لا يستهان به للهوية الأمريكية. ثانيا: نفوذ الليبراليين الأمريكيين وثقافتهم التعددية، إذ ينتقد هنتينجتون اليسار الليبرالي الأميركي ودعواته المستمرة للتعددية ومراجعة الذات الأمريكية والغربية والتي ساعدت على نمو هويات فرعية أميركية عديدة وانتشارها وعلى رأسها هويات الأفارقة الأمريكيين واللاتينيين الأمريكيين، كما وقف اليسار الأميركي موقفا ناقدا للثقافة الأنجلو-بروتستانتينية، وخاصة تجاه الجانب الديني منها، ونادى الليبراليون بشكل متكرر بسيادة قيم العلمانية وفصل الدين عن الدولة وعن الحياة العامة الأمريكية مما أضعف المكون الديني المسيحي للهوية الأمريكية، وروجوا كبديل عن المكون الديني مكون آخر وهو العقيدة السياسية الأمريكية والتي بالغ الليبراليون - كما يرى هنتينجتون - في التأكيد عليها كمصدر أساسي للهوية الأمريكية، وتقوم العقيدة السياسية الأمريكية - كما ذكرنا من قبل - على مبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية والحقوق المدنية وعدم التمييز وحكم القانون. وعلى الرغم من احترام هنتينجتون لهذه العقيدة السياسية إلا أنه يرى أنها غير كافية لحماية الهوية الأمريكية من عدم التفكك، وينادي بإحياء مركزية الثقافة الأنجلو-بروتستانتينية في الهوية الوطنية الأمريكية. * مدير الشؤون العربية بمجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) - واشنطن