بين فترة وأخرى، حيث نشاهد أسماء لم نسمع بها من قبل، ثم يُشار إليهم فجأة بوصف واحد: ناجحون. لا نعرف الحكاية كاملة، ولا الطريق التي سلكوها، كل ما نعرفه أنهم حاضرون في المشهد، في المقاطع السريعة، في الإعلانات، وفي الصفوف الأولى للمناسبات. بعضهم لم يتقدم بموهبة واضحة، بل بلحظة مصورة أتقنت توقيتها، وبعضهم لم يُعرف بإنجاز يُراكم، بل بتجاوز صار حديث الناس. وهناك من ارتقى، ليس عبر السلالم الطويلة للجهد، بل عبر طرق مختصرة مرصوفة بالضجة والظهور، لا بالإنجاز الحقيقي. بهذا الشكل الهادئ تتحرك المعايير دون إعلان، وتُعاد كتابة معنى النجاح، لا في الكتب، بل في المشهد اليومي الذي نراه ونعتاد عليه. كان النجاح، ذات زمن غير بعيد، يُقاس بالاستمرارية والصبر لا بالسرعة، وبالتأثير بعيد المدى لا بالضجة المؤقتة. لم يكن الوصول مكافأة سريعة، بل نهاية طبيعية لمن أطال السهر واحترم التعب. كانت الطريق طويلة ومتعبة لكنها واضحة المعالم؛ يبدأ المرء من الهامش، ويتقدم خطوة خطوة، حتى يُعرف بعمله قبل اسمه، وبأثره قبل صورته. أما اليوم فقد تغير المشهد. لم يعد النجاح ابن الجهد وحده، بل صار ابن الظهور. لم تعد السنوات معيارًا، بل الثواني. لم يعد السؤال: ماذا أنجزت؟ بل: كم شوهدت وكم تفاعلوا معك؟ انقلبت القيم بهدوء مريب، بلا ضجيج ولا مقاومة. لم نشعر بالزلزال، لأن الأرض لم تهتز، بل نحن الذين انزلقنا. في زمن الشاشات صار الضوء أهم من المعنى، والصوت أعلى من الفكرة، واللقطة أقوى من المسيرة. صار النجاح يُصنع أمام الكاميرا لا خلف الكواليس. صار يُقاس بالانتشار لا بالإتقان. لم نعد نحتفي بالعمق، بل بالسطح اللامع.. ذلك الذي يعكسنا سريعًا، ثم يتركنا فارغين. وليس الذنب ذنب المنصات وحدها، فهي مرايا لا أكثر. الذنب أننا صدقنا أن اللمعان دليل الجوهر، وأن الحضور الدائم يعني القيمة، وأن الصمت، حتى وإن كان عميقًا، هزيمة. صرنا نستعجل الثمرة قبل أن يشتد العود، ونطلب التصفيق قبل أن يكتمل اللحن. هكذا تراجع الجهد إلى الظل، وصعد الادعاء إلى الواجهة. صار العامل الحقيقي مجهولًا، بينما يتصدر المشهد من يحسن تقديم نفسه لا من يحسن ما يفعل. واختلط النجاح بالضجيج، حتى بات من الصعب التمييز بين من يصعد لأنه يستحق، ومن يرتفع لأن الخوارزمية اختارته. لكن الخطر الأكبر ليس في تغير المعايير، بل في اعتيادنا عليها. حين يكبر جيل وهو يظن أن الطريق الأقصر هو الأجدى، وأن القيمة تُمنح لا تُبنى، نكون قد ربينا العجلة على حساب المعنى، والسرعة على حساب الأثر. مع ذلك لا يزال للنجاح وجه آخر.. أكثر هدوءًا، أقل صخبًا، لكنه أصدق. نجاح لا يلمع فورًا، ولا يُصفق له حالًا، لكنه يبقى. نجاح يُرى في الأثر الطويل لا في الترند العابر. في العمل الذي يُتقن حتى لو لم يُصور، وفي الجهد الذي لا ينتظر شهادة من أحد.