إذا كنا قد بيّنا في المقال السابق أن الفلسفة المادية هي صهرة العلم، فإن الوضعية المنطقية - التي تأسست في عشرينات القرن المنصرم في دائرة فيينا - هي أشدَّ التصاقًا به، ولا نبالغ إذا قلنا إنها توأمه السيامي. لدرجة أن بعضهم قال: من يخالف الوضعية المنطقية متخلف ورجعي. لقد أعلنت الوضعية المنطقية حربًا على الميتافيزيقا، لأنها ترى أن هذا العالم الواقعي يجب أن ينفرد به العلم وحده. ولكي يكون العلم هو الصوت الوحيد في الساحة، كان لا بدّ من توحيد اللغة العلمية، أي أن تكون هناك لغة علمية واحدة مشتركة ترجع إليها كل العلوم، لغة خالية من الغموض والالتباس، ولا تتضمن إلا عبارات يمكن اختبار صدقها. ولتحقيق ذلك أوجد الوضعيون «معيار التحقق». ما هو معيار التحقق؟ هو معيار يُحدِّد أن أي جملة لغوية لا تُعتبر ذات معنى إلا إذا كانت قابلة للتحقق تجريبيًا، أو كانت تُعبِّر عن قضية تحليلية (منطقية أو رياضية). طبعًا المقصود هو الدلالات الفلسفية للجملة، وليس النحو والصرف. فمثلًا: الجملة اللغوية «درجة غليان الماء 100 درجة مئوية» يمكن التحقق منها بالحس والتجربة، ولذلك هي ذات معنى. والجملة «كل العزّاب غير متزوجين» هي جملة تحليلية منطقية، فهي ذات معنى عندهم أيضًا. وكذلك «2+2=4» هي قضية تحليلية صادقة بحكم بنيتها الرياضية. وبهذا يمكن التحقق من الجمل العلمية حسيًا، ومن الجمل المنطقية الرياضية تحليليًا. وبناءً على هذا المعيار شطبتْ الوضعيةُ المنطقيةُ الميتافيزيقا من فلسفتها شطبًا نهائيًا، وناهضتها مناهضةً عنيفةً في كل شبر من ميدان المعرفة، لأن القضايا الميتافيزيقية، مثل الروح والأخلاق والوجود والجوهر، لا يمكن إثباتها تجريبيًا ولا تحليلها منطقيًا أو رياضيًا، وبالتالي فهي - بحسب تصورهم - قضايا لا معنى لها!! وأقْصَرَوا دور الفلسفة فقط على تحليل اللغة! وأما قضايا الجمال والأخلاق فلا تعدو عندهم أكثر من كونها انفعالات. وقد نادى الوضعيون صراحة بأن العلم ومنطقه هو النشاط العقلي الوحيد ولا نشاط سواه. إذن، الفلسفة عند الوضعيين ليست تأملات، بل هي مُرافقة للعلم التجريبي وخادمة له. وفقدت الوضعية المنطقية بريقها بعد أن هجرها بعض أصحابها، وقُتِل مؤسسها موريتز شليك شرّ قتلة، وكذلك تعرضت لهجمات شرسة من المفكرين والفلاسفة، ما زالت بها حتى أودت بحياتها، وبقيت الميتافيزيقا حية تَدِبُّ على سطح الأرض. ومقالنا هذا لا يتسع للخوض في تلك الهجمات التي سنفرد لها مقالاً لاحقا بإذن الله، ولا سيما أن هدفي ليس الخوض في تاريخ الوضعية المنطقية والنقودات التي تعرضت لها، وإنما الحديث عن صلة القرابة بينها وبين العلم، وكيف أنها مثلت في عصرها أقوى فلسفة تدافع عن العلم وتنافح عنه، وتطالب بتنصيبه سيدًا على كل ميادين المعرفة.