تجيء في كل عامٍ مناسباتٌ تُسلّط الضوء على اللغةِ العربية ودورِها الحضاريّ والثقافيّ، ويَبرز في مقدمتها اليوم العالميّ للغة العربية في الثامن عشر من ديسمبر، والذي وافق هذا العام السابع والعشرين من جمادى الآخرة للعامِ 1447ه، وكذلك اليوم العالميّ للترجمة في الثلاثين من أكتوبر، وهذان اليومان يُحتِّمَانِ أن يقف المختصون والمهتمون باللغة العربية وترجمتها وقفةً تُدركُ أهميّة هذا الجانب؛ إذ هيَ لغة القرآن التي تكفّل ربها بحفظها؛ وذلك لحفظ كتابه. ويكفي اللغة العربية زهوًا بنفسها أنّ من سَمِعَ آيات الله تُتلَى أصغى بكل جوارحه؛ لجمال صوتِها وجرسِها، وبلاغةِ أسلوبِها وتركيبها، وكذا أبياتها الشعريّة وقصائدها. وهي من أقدمِ اللغاتِ على وجه البسيطة، ومنذ نشأتها وحتى يومنا هذا وهيَ تُساير اللغات، وتتعايش معها، وتتكيّف مع متطلبات الحضارة؛ إذ هيَ غنيّةٌ بل من أغنى لغاتِ الأرض، وأكثرها مفردات، وهذا ما يجعلها تحتضنُ كُلّ ما هوَ جديد ومُستجَد؛ فاللغة العربية لغةٌ حيّة، تولد بها كلمات، وتكتسب معانٍ جديدة. وحيثُ إنّ لغتنا العربية ركنٌ أصيل في هُويتنا وتاريخنا، وحضارتنا؛ تقع مسؤولية ترجمتها على عاتق أبنائها المترجمين؛ إلا أن ذلك يحتاج إلى مُتمكنين منها؛ حتى يكونُ نقلها إلى اللغاتِ بجمالِ أسلوبها وأدبها وإعرابها. إذ إنّ الترجمةَ من اللغةِ العربية إلى لغاتٍ شتّى من الضرورات والواجبات على القادرين أن يجعلوا من الحضارة العربية غذاءً ومعرفةً وثقافةً؛ ما يُنقل إلى غيرِ الناطقين بالعربية ما لهذه اللغة من سماتٍ وثقافةٍ وتاريخ وعذوبة وجمال. ومن هُنا؛ فإن الترجمة من اللغة العربية تحتاج وتستلزم أن تكونَ مُجاريةً لأسلوبها البلاغيّ وجرسها الموسيقيّ. فمن خلال بحثي في هذا المجال، أكادُ أجزم أنّ ذلك من السهلِ المُمتنع، فهو سهلٌ على المتمكنين الراسخين في علمِ اللغة العربية وآدابها ونحوها وصرفها ومدلولاتها ومترادفاتها ومشتقاتها وفنونها، وهو ممتنعٌ على من يظنُّ أنّ الترجمة تكون بالمعنى الظاهرِ فحسب، وهذا وإن كان مُمكنًا وجائزًا لبعضِ الروايات والقصصِ والمقالاتِ الصحفيّة، فلا يمكن أن يكونَ للقرآن الكريم أو الأحاديث النبويّة الشريفة أو القصائد أو كتب التفسير وحتى الملاحم. فعلى المترجمين أن يقفوا متأملينَ مستوحيينَ لتلكم المعاني والألفاظ حتى تصل إلى الطرف الآخر كما ينبغي. فلا يُمكن أن تُترجَم النصوص العربية إلا حينما يعرف المُترجم إعراب الكلمة؛ إذ من غيرِ الإعراب، نخلُّ بالمعنى، بل نقلبه وننسفه نسفًا، والأدلة والشواهد على ذلكَ كثيرة، وقد نلحظ على سبيل المثال لا الحصر إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، فمن لا يُتقن قراءةَ القرآن الكريم إعرابًا ونحوًا وصرفًا؛ يصعب عليه أن يُدرك أنّ العلماء هم الذين يخشونَ الله -سبحانه وتعالى-. ويكون الامتناع نفسه عند ترجمة ألفاظ القرآن البالغة الدقة؛ مثل «إمْرًا» [الكهف:71] و«نُّكراً» [الكهف:74]؛ إذ إن الأولى وصفٌ لذريعة الفساد، والثانية وصفٌ لفسادٍ حاصلٍ، فالمساواة بينهما في الترجمة خطأٌ يُغفِل دقّة التعبير. وعليه، يكونُ لِزامًا على المترجمين قبل أن يمتهنوا هذه المهنة، وقبل أن يترجموا من العربية أن يُحكِموا علومها، ويتضلّعوا من أسرارها، نحوًا وصرفًا وبلاغةً ونقدًا وجرسًا لفظيًا؛ فاللغة العربية مبينةٌ على ذلكَ كُلّه، ومنه تعددت التفاسير واختلف المفسرون؛ لاختلافٍ في إعرابِ كلمةٍ أو جملة. ومن هُنا، فإن ترجمة اللغة العربية من السهلِ المُمتنع.