قضيتُ طفولتي وأنا أحمل صورة مشوهة عن الله؛ صورة صُنعت في عقلي دون وعي، وتغذت على خطاب متشدد يقدم الإله باعتباره كيانًا غاضبًا يترصد الأخطاء الصغيرة قبل الكبيرة، ويُحصي الأنفاس لا ليغفر، بل ليعاقب. بدأت الصلاة في سن مبكرة جدًا، كنت أستيقظ في قسوة البرد أتوضأ بماء لا يقوى عليه جسد طفلة، وأقف للصلاة لا بدافع الشوق أو الطمأنينة، بل بدافع الخوف الخالص.. الخوف من حكايات زُرعت في رأسي عن عذاب القبر، عن الثعبان الأقرع، عن صراخ لا يسمعه بشر، لم يكن ذلك إيمانًا، بل رعبًا مُقنَّعًا بالطاعة. بعقل طفولي لا يعرف الحدود ولا المسلمات، كنت أطرح أسئلة فطرية بيني وبين نفسي، وحين تجرأتُ وبُحتُ بها، واجهتُ إجابات جاهزة، حاسمة، لا تقبل النقاش، تُقدِّم الله بصورة قاسية ومخيفة، صورة نفّرتني أكثر مما قرّبتني. كبر داخلي هاجس النار؛ نار لا تشبع، لا تميّز بين ذنب متعمد وخطأ بريء، ولا بين وعي طفلة وجهل صغير، كنت أتساءل: ما الذي يريده الله منا؟ لماذا يخلقنا ثم يعذبنا على هفوات لا نعيها؟ لماذا يُحاسَب الطفل وكأنه رجل كامل الإدراك؟!. أتذكر حادثة صغيرة في ظاهرها، عميقة في أثرها، ارتكبتُ خطأ تافهًا لا أذكره اليوم من فرط تفاهته، بعدها تعرّضتُ لحادثٍ نزفتُ فيه دمًا، وقيل لي حينها: «هذا عقاب الله، فكيف بعقابه في الآخرة؟»، في تلك اللحظة تشكل سؤال مرعب في ذهني: أي إله هذا الذي لا يسامح.. ولماذا يعاقب قبل أن يُعلِّم؟!. كنت أصلي، أصوم، أطيع، أقرأ القرآن، وأجتهد في كل ما يُطلب مني، لا حبًا، بل خوفًا.. كلما ذُكر اسم الله، حضرت في ذهني صور النار والسياط، لا الرحمة والسكينة. حتى الفرح لم يَسلم، يوم عدتُ من المدرسة أحمل شهادتي الأولى، ألوّح بها ببراءة الطفولة، قيل لي: «إن الله لا يحب الفرحين»، انطفأت فرحتي فورًا، وتسلل سؤال جديد: هل يُعاقبنا الله؟ وهل يمنعنا حتى من الفرح؟!. كبرتُ، وكبر الخوف معي، حتى أدركتُ أن شيئًا ما ليس على ما يرام، الحب والخوف لا يجتمعان بهذه الصورة، عندها قررت أن أبحث عن الله بنفسي، لا كما صُوِّر لي، بل كما هو. قرأتُ، وتأملتُ، وخضتُ تجارب الحياة، حتى وصلت إلى صورة مختلفة تمامًا: الله الكريم، الرحيم، اللطيف.. الله الذي يتسع للخطأ، ويحتوي الضعف، ويُقدِّر الجهل، ويغفر قبل أن يُعاقب.. الله الذي خلق الإنسان حبًا، لا رغبةً في تعذيبه. منذ تلك اللحظة تغيّر كل شيء، لم أعد أرى في السماء نارًا، بل رحمة، لم أعد أرفع رأسي خوفًا، بل امتنانًا، صرت أجد الله في كل ما هو جميل: في الرزق، في التيسير، في الفرح، لا في المصائب وحدها. أحرص اليوم على نقاء قلبي وحُسن نيتي، لا لأنني أخاف الله، بل لأنني أحبه.. أخشى أن أغضبه كما يخشى المرء أن يُحزن من يحب.. وإن أخطأت، رفعت رأسي أرجوه الصفح، لا هروبًا من العقاب، بل تمسكًا بالمحبة. وحين أفكر بالمستقبل أُدرك أمرًا واحدًا بوضوح: أني لن أخيف أطفالي، سأُعلّمهم عن الله كما عرفته أنا أخيرًا؛ إله المحبة والسلام.. الإله الذي يُحب، ومن يُحِبّه الناس يطيعونه عن قناعة، لا عن خوف.