ما أهمية نشر (تسريبات الأسد) بعد زوال حكمه؟ ما الذي كشفته هذه التسريبات ولم يكن يعرفه السوريون؟ ما المثير في معرفة حديث شخصي وخاص؟ أسئلة كهذه تكررت كثيرا في أعقاب التسريبات التي بثتها قنوات العربية والحدث لحوار دار بين بشار الأسد ومستشارته الإعلامية. وبغض النظر عن النوايا وراء هذه الإشارات والتساؤلات فإنها لا تعدو كونها محاولة يائسة لإحباط رد فعل الشارع وتقليل الأضرار الناجمة عن انكشاف هذه اللحظة التي توقف عندها المشهد السوري فجأة. الادعاء بعدم أهمية هذه التسريبات تفكير سطحي يتجاهل تماما الأبعاد السياسية والنفسية والأخلاقية التي ظهرت كعملية تشريح حي لعقلية النظام في لحظة صدق نادرة ومظلمة. لا اعتبار للخصوصية هنا؛ فالمتحدث لم يكن شخصا عاديا بل هو رأس الدولة في نظام قمعي شمولي حيث كلمات الحاكم ومواقفه وحتى مشاعره تمثل القانون الفعلي ويتعلق بها مصير ملايين البشر. من جهة أخرى فإن هذه التسريبات تعد كنزا استخباراتيا لا يقدر بثمن، إذ من المعلوم اعتبار سيكولوجية الحاكم معلومة استخباراتية نوعية، إنها تقدم مفتاحا لفهم قرارات الماضي، والتنبؤ بحركة المستقبل، وكيفية صناعة السياسة بناء على معطيات الواقع. (يلعن أبو الغوطه) هذه العبارة كانت حكم إعدام معنوي ولم تكن مزحة أو زلة لسان، وكشفت أن قرار العنف المفرط لم يكن قرارا سياسيا صعبا بل كان صادرا من كراهية شخصية عميقة. (القرف من البلد) هذا التعبير الذي كشف عن انفصال تام عن المسؤولية، فهو لا يشعر بالأسف، هو فقط منزعج من الفوضى التي تحيط به وكأنه متفرج بريء وليس الفاعل الرئيسي. كشفت التسريبات إذا بشكل كامل عن طبيعة وعقلية النظام، وأكدت بالتالي الاتهامات له بإذكاء النعرات الطائفية والمناطقية. كما أكدت التسريبات هشاشة التحالفات التي كان يحتمي بها، فالسخرية من حزب الله أو من بوتين تؤكد أن التحالف لم يكن إستراتيجيا أو مبنيا على قيم مشتركة بل هو أشبه (بزواج مصلحة) تكتيكي، ولهذا أكبر الأثر في نقض كل سرديات المقاومة، وهدم الثقة لدى من تبقى من حلفاء الأسد سواء كشخص أو كفكرة. في حديثه أيضا استهزأ الأسد بالجيش والوزراء، ما يظهر تآكل الدولة التي لم تكن قائمة على هيكل وطني بل تحولت إلى شبكة من الولاءات القائمة على الخوف والتملق والفساد. ويبقى السؤال، ما تأثير التسريبات في المشهد الحالي وأطرافه الفاعلة؟ الواقع أن هذه التسريبات أداة سياسية فاعلة تتجاوز كونها مادة للتحليل فقط. نتحدث أولا عن التأثير المباشر في الحاضنة الشعبية الموالية، وخاصة لأولئك الذين قدموا أبناءهم دفاعا عن «الوطن» و«الرئيس» الذي ظهر بدوره يسخر من تضحياتهم وبدا ضعيفا مهزوزا غير مكترث بهم، فأي شرعية تبقى لهذا الرجل حتى داخل طائفته! كما تؤكد هذه التسريبات بوضوح سردية المعارضين له، والتي تذهب إلى أن الأسد لم يهتم إلا بسلطته وعائلته، وأن مفاهيم كبرى مثل الدولة والوطن والشعب هي خارج حساباته تماما. فجاءت التسريبات اليوم لتشكل ذخيرة سياسية وإعلامية في يد المعارضة لتذكير العالم بطبيعة النظام وتؤكد استحالة إعادة تأهيله. إنها لحظة إجماع نادرة بين أطياف المعارضة. كما تمثل هذه التسريبات إحراجا كبيرا لحلفاء الأسد كموسكو وطهران، وتضعف أي ورقة تفاوض مستقبلية تحاول تسويق الأسد كشريك موثوق في أي حل سياسي قد يطرح لتنظيم الوضع السوري الداخلي. الحلفاء الآن لديهم دليل ملموس على أن ولاء الأسد الوحيد هو لنفسه، وأنهم إن أرادوا ضمان مصالحهم في سوريا مستقبلا فعليهم أن يبحثوا عن بدائل أكثر استقرارا وقوة وموثوقية. هذه التسريبات باختصار كانت شهادة للتاريخ أدلى بها المتهم بنفسه عن نفسه فأظهرت الحقيقة عارية، حقيقة مدمرة لشرعية النظام، ومحرجة لحلفائه، وداعمة لمواقف خصومه.