يشهد عالمنا المعاصر تحولا جذريا في طرائق تداول المعرفة، وفي أساليب التعبير والتفاعل الثقافي، حتى غدت المعلومة في زمن الإعلام اللحظي جزءا من دورة حياة رقمية لا تعرف الانتظار. فالإنسان الذي كان يتلقى المادة الثقافية عبر القراءة الورقية الهادئة أو الندوات الفكرية أو البرامج التلفزيونية المختصة، أصبح اليوم يعيش في فضاء لا نهائي من المنصات الرقمية المتشابكة، مثل: «تويتر» و«إنستغرام» و«سناب شات» و«فيس بوك» و«يوتيوب»، وأحدثها وأكثرها تأثيراً «تيك توك»، حيث يتحول الفرد من متلق إلى فاعل، ومن قارئ إلى صانع محتوى، ومن مستمع إلى مشارك في بث لحظي يتجاوز الحدود. لقد أتاح هذا التحول لحظة تاريخية جديدة من فضاءات الفكر والثقافة، إذ لم تعد هذه المفاهيم حكرا على النخبة، أو حبيسة القاعات الأكاديمية، أو مقتصرة على النشر الورقي والبرامج الإعلامية الجادة التي تخاطب جمهورا محدودا، بل صار في الإمكان إعادة صوغ الفكر، وتقديم الأدب والشعر والتأمل الفلسفي في قوالب قصيرة، نابضة، جذابة، تصل إلى ملايين الناس خلال دقائق. وهذا ما أدى إلى كسر الإعلام اللحظي التفاعلي جدار العزلة الذي لطالما فصل بين النخبة والجمهور، ما أسهم في فتح المجال لتداول البضاعة الفكرية والثقافية بشكل مبسط، ومن دون أن تفقد جوهرها. وبحق فإن هذه الثورة ليست سطحية كما قد يظن البعض منا ومن غيرنا، بل هي واحدة من أهم تحولات المشهد الثقافي في القرن الحادي والعشرين. ومن الحقائق التي ترسخت في هذا السياق، أن المبدعين والمثقفين أدركوا، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الفضاء الرقمي لم يعد مجرد أداة ترفيهية، بل أضحى منبراً بمقدوره إعادة تشكيل الذائقة العامة، إذا ما أحسن، بالطبع، توظيفه؛ فها نحن مثلاً نشاهد شعراء يعرضون قصائدهم في بث مباشر على «تيك توك»، فتلقى تفاعلاً من جمهور واسع ربما يجهل كثير منه إبداعات الشعر العربي، قديمة وحديثة. كما أننا نرى أيضاً مفكرين يعرضون وجهات نظرهم في مقاطع مكثفة لا تتجاوز الدقيقة، غير أنها تثير أسئلةً كبرى على مستوى القيم والمعنى والهوية.. علاوةً على ذلك أصبحت المقولة الأدبية التي كانت توثق في الكتب والدوريات ومحصورة بين أيدي القراء المختصين، تتداول في هذا الزمن عبر «تويتر» و«إنستغرام» بألوان براقة، فتلهم الآلاف وتوقظ حس التأمل في كثير من النفوس. الإعلام اللحظي والذكاء الاصطناعي إن المعضلة الكبرى التي واجهت المثقفين العرب لعقود، تجسد قوامها في كيفية الوصول إلى الجمهور العريض من دون التفريط بعمق الفكرة أو جمال اللغة والأسلوب. ومع ظهور الإعلام اللحظي بدت تلك المعضلة وكأنها في طريقها إلى الحل الأكيد، شريطة أن يعاد تعريف المثقف ودوره في ظل هذا الفضاء الجديد. فالمثقف لم يعد ذاك الذي يكتب من شرفة عالية، ولا هو ذاك الذي يتحدث إلى قلة في ندوة خاصة، بل بات المثقف العصري مطالباً بأن يكون مندغماً وفاعلاً في المشهد الرقمي، واعياً بلغة المنصات وخوارزمياتها، قادراً على تحويل المادة الفكرية إلى فكرة جذابة، من دون أن يفقدها روحها أو صدقيتها. ولعل ما يميز الإعلام اللحظي أنه يختصر المسافات بين الفكرة ومتلقيها، وبين النص وزمن قراءته. فالوسائط الحديثة تتيح التفاعل المباشر: تعليق فوري، إعجاب، مشاركة، بث مشترك، حوار مفتوح، وكل ذلك يحدث في دقائق معدودات. وبالفعل فإن هذه الدينامية غيرت من مفهوم «التلقي الثقافي»، إذ لم يعد المتلقي متفرجاً، بل صار شريكاً في إنتاج المعنى. وهذه الشراكة، وإن بدت سطحية أحياناً، إلا أنها تحمل بذوراً لتجديد حقيقي في بنية الثقافة العربية. فكل مشاركة أو نقاش أو إعادة نشر، هي في جوهرها مشاركة في عملية إعادة توزيع للفكر، وبناء لرأي عام ثقافوي أكثر حيوية وتعدداً. وفي قلب هذا التحول الرقمي، يبرز الذكاء الاصطناعي كعامل أساس في دعم الإعلام اللحظي وتوسيع مدى تأثيره. فلم يعد دوره مقتصراً على الجانب التقني فحسب، بل أصبح شريكاً في نشر الفكر والثقافة بسرعة ودقة؛ فخوارزميات التعلم الآلي اليوم تتعرف إلى ميول الجمهور، وتقدم المحتوى الأدبي والفكري المناسب لكل مستخدم، وكأنها تمارس هكذا توجيهاً ذكياً للثقافة وعلى نحو خاص بكل متلق. وقد تجلى ذلك عملياً في مبادرات حقيقية، مثل استخدام يوتيوب لخوارزميات توصية القنوات التعليمية والثقافية، ما أسهم في زيادة نسبة الوصول إلى هذه المواد وفق تقارير أكدها قوقل ترند في عام 2023. كما اعتمد بعض المشروعات الرقمية العربية على أدوات ذكاء اصطناعي لتحليل تفاعل الجمهور مع المحتوى، بما يمكن من تطوير أساليب تقديم مبتكرة وجاذبة للشباب بطريقة آمنة وواقعية. وتؤكد منظمة اليونيسكو في تقريرها الصادر في عام 2023 بعنوان «الذكاء الاصطناعي من أجل الإبداع والثقافة» أن هذه التقنيات تمثل «مرحلة مفصلية في دمقرطة الثقافة»، إذ تتيح تحويل النصوص الجامدة إلى تجارب تفاعلية حية، وتجعل المعرفة أكثر قرباً وسهولة، من دون أن تفقدها عمقها الإنساني. واليوم، يمكن لمحاضرة فكرية طويلة أن تختصر بوساطة أدوات الذكاء الاصطناعي في دقيقة واحدة وبصوت مولد وصور تعبيرية مرافقة، لكنها تحتفظ بجوهرها المعرفي. بل بات ممكناً أن يعاد إنتاج قصيدة كلاسيكية بصوت افتراضي وبأسلوب عرض يربط بين الأصالة والحداثة. بهذه الصورة، لم يعد الذكاء الاصطناعي أداة تقنية، بل تحول إلى شريك فعلي في إعادة صوغ الوعي الثقافي، ومحرك جديد لانتشار الفكر الإنساني بسرعة ودقة وفاعلية قائمة ومنظورة. إنه يمثل الجسر بين التقنية والوجدان، بين السرعة والعمق، ويمنح الثقافة فرصةً لتجد جمهورها الواسع من دون أن تفقد روحها ومستوى جديتها وجمالها. على المستوى الخليجي والعربي بعامة، نحن أمام فرصة تاريخية لإعادة صوغ العلاقة بين الفكر والجمهور، وبين الثقافة والإعلام؛ فالعالم الرقمي العربي لا يزال متعطشاً للمحتوى الهادف، ولا تزال الحواضن الثقافية التقليدية، من مؤسسات ومراكز ومجلات، تعمل في نطاق محدود، وكأنها لم تستوعب بعد أن ساحة التأثير الكبرى انتقلت إلى المنصات الرقمية. هذه الحواضن يمكن أن تتجدد من خلال إطلاق مبادرات رقمية واعية، كأن تبث أمسيات شعرية وفكرية على «تيك توك» و«إنستغرام»، أو أن تقدم المراكز البحثية ملخصات مرئية لأبحاثها الفكرية، أو أن تدار صفحات مختصة تسهل دخول القارئ العادي إلى عوالم الفكر دونما تعقيد. لقد كانت فكرة «الكتاب الإلكتروني» و«المكتبة الإلكترونية» و«تداول النصوص عبر بي. دي. أف» خطوة أولى في هذا الاتجاه، غير أنها ليست كافية. فالتفاعل اللحظي الذي توفره المنصات الحديثة يمنح النص حياة أخرى. فالنص لا يعيش في عالمنا المعاصر في عزلة، بل في بيئة تفاعلية تتيح له أن يفسر ويناقش ويعاد إنتاجه من زوايا مختلفة في ضوء تفاعل الجمهور معه. وهذه الخاصية غيرت مفهوم النشر نفسه، فالمحتوى لن يتوقف عند حدود من أنشأه، بل يبدأ منه ليواصل رحلته عبر المتابعين والمعلقين والمشاركين. نماذج مضيئة في الخليج العربي إن التحول الرقمي في المشهد الثقافي ليس ظاهرة تقنية حداثية، إنما هو تحول في الوعي ذاته؛ فالتقنيات ليست سوى أدوات. أما الجوهر فهو في الكيفية التي تستخدم بها. ويمكن القول إن الثقافة العربية في لبوسها الحديث أمام امتحان مزدوج: كيف تحافظ على عمقها وجذورها، وفي الوقت نفسه، كيف تلج عالم السرعة والتفاعل والإيجاز من دون أن تفقد معايير قيمها؟ هذه المعادلة الدقيقة تتطلب من المؤسسات الثقافية أن تبتكر أساليب إبداعية في العرض والترويج، وأن تدرك أن زمن النصوص الطويلة والندوات في القاعات قد ولى، وأن المستقبل هو في التفاعل اللحظي المفتوح الذي يصنعه الجمهور بمشاركته. بعض الدراسات الحديثة أظهر أن مواقع التواصل الاجتماعي أضحت بمثابة ساحة مركزية لتبادل الأفكار والقيم الثقافية؛ فقد كشفت تقارير وتحليلات عدة أن أكثر من نصف المستخدمين العرب ل«تويتر» و«إنستغرام» يتفاعلون أسبوعياً مع محتوى يحمل بعداً فكرياً أو ثقافياً، حتى وإن كان مبسطاً أو عاطفياً. هذه النسبة تظهر أن الجمهور لم يهرب من الفكر كما يشاع، بل يتلقفه بشرط أن يقدم له بطريقة تتناسب وإيقاعه العصري. كما أكد تقرير اليونيسكو الصادر في عام 2023 والحامل عنوان «الثقافة في العالم الرقمي» أن المنصات الاجتماعية باتت أداةً رئيسة في «دمقرطة المعرفة»، أي تحويلها من حكر على النخبة إلى ملكية عامة متاحة للجميع. وعملياً وواقعياً، فإن هذه الثورة الرقمية ليست بلا تحديات؛ فالإعلام اللًحظي، بما يحمله من سرعة وتكثيف، قد يغري بالسطحية والتسرع، وقد يؤدي إلى تبسيط مخل أو إلى تحويل الثقافة إلى مجرد مادة استهلاكية. وهنا تقع المسؤولية الأخلاقية والفكرية على المثقفين والمبدعين أنفسهم، إذ لا يكفي أن ينشروا ويبثوا ما يريدون، بل ينبغي عليهم أن يوازنوا بين الشكل والمضمون، وأن يستخدموا أدوات العصر من دون أن يقعوا في فخ الابتذال أو التقليد. فالمحتوى الفكري الرصين يمكن أن يكون لافتاً ومؤثراً إذا ما عرض بلغة قريبة وصورة جميلة. في الخليج العربي على وجه الخصوص، نشهد نماذج مضيئة بدأت تستثمر الإعلام اللحظي بذكاء؛ فبعض المبدعين الشباب يستخدمون «تيك توك» لتقديم شروحات مبسطة في الفلسفة والتاريخ، وآخرون يعرضون الشعر وسائر كنوز اللغة العربية في سياقات حديثة تجذب الجمهور وتعرفه إلى روعة التراث بأسلوب معاصر. كما أن بعض المؤسسات الثقافية الرسمية أدرك بدوره أهمية «التحول الإعلامي»، فأطلق حسابات رقمية ومبادرات تفاعلية مثل «كتاب في دقيقة» و«مقطع من ديوان»، وهي أعمال صغيرة، لكنها تؤشر إلى روح أو نسق المستقبل الثقافي الذي يتجه نحو المشاركة والشمول. إن بناء وعي ثقافي جديد في العالم العربي لن يتحقق إلا عبر جسر يصل بين الأصالة والمعاصرة، بين الفكر العميق والوسيط السريع. وما دام الفكر الإنساني، هو محور كل تطور، فإن مهمتنا هي أن نعيد تقديمه للناس بما ينسجم مع أزمنتهم وأدواتهم. فالثقافة ليست في الورق وحده، بل في الفكرة حين تبعث وتتداول وتؤثر. والكتاب الذي كان يقرأ في صمت، صار في حاضرنا يناقش عبر بث مباشر، والقصيدة التي كانت تلقى في أمسية مغلقة، أضحت تسمع في دقائق أو ثوان وتنتقل إلى ملايين من البشر حول العالم. من البديهي القول إن ترويج المادة الفكرية والثقافية بجعلها مادةً عامة متداولة، ليس البتة انتقاصاً منها، بل هو إحياء لها. فالفكرة التي تبقى في الكتب قد تموت في عزلتها. أما التي تنشر وتناقش وتلهم، فإنها تولد من جديد في عقول الناس وقلوبهم. والإعلام اللحظي في وقتنا الراهن، هو رحم هذه الولادات الفكرية التفاعلية الآنية، فإذا ما أحسن المثقفون توجيهه واستثماره، سوف يصبح هذا الفضاء الرقمي الضخم حتماً ساحةً لارتقاء الذائقة، لا لانحدارها، ورافعةً للوعي لا لتسطيحه، ومنبراً للفكر الحر الذي يعيد تعريف معنى الثقافة في زمن السرعة والاتصال الحيوي الدائم والمفتوح. * رئيس «دار التحليل الاستراتيجي للاستشارات الإعلامية» - الكويت * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي