في كل صباح، يدور الاقتصاد السعودي على وقع أرقامٍ ضخمة، من أبرزها 144 مليار ريال حجم التحويلات السنوية للعمالة الوافدة في عام 2024م، أي بمعدل 400 مليون ريال يوميًا. هذا الرقم، رغم أنه يعكس قوة الاقتصاد واتساع قاعدة العمل، إلا أنه يسلط الضوء على تحدٍّ إستراتيجي يتعلق باستبقاء رأس المال داخل المملكة، وإعادة هيكلة العلاقة بين سوق العمل وسياسات التوطين والتمكين الاقتصادي. تستضيف المملكة نحو 15.7 مليون وافد، أي ما يعادل 44% من إجمالي السكان، وتصل مشاركتهم في سوق العمل إلى نحو 77%، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالمتوسطات الدولية. وتكشف بنية هذه التحويلات عن مشهد اجتماعي واقتصادي متداخل؛ إذ تمثل العمالة المنزلية قرابة 20% من إجمالي العمالة، لكنها تستحوذ على 23% من التحويلات، وهو انعكاس مباشر للتحولات الاجتماعية التي رافقت تمكين المرأة وتغير أنماط الأسرة السعودية، ما أسهم في نمو قطاعات خدمية واقتصادية مساندة. في المقابل، يتركز نحو 21% من القوى العاملة الوافدة في قطاع المقاولات، وهي الفئة التي تستحوذ وحدها على 30% من قيمة التحويلات، في ظل زخم مشاريع البناء والتشييد والتوسع العمراني الذي تشهده المملكة. ويُستفاد من ذلك أن نصف التحويلات تقريبًا تصدر عن فئة العمال العاديين الذين يشكلون العمود الفقري للقطاعات التنفيذية. وتُعد هذه النسبة مرتفعة حتى عند المقارنة بدول تعتمد على اقتصاد مفتوح مثل سنغافورة، التي تصل فيها نسبة العمالة الوافدة إلى 40%. غير أن الفارق الجوهري أن الاقتصادات الكبرى تميل إلى تحويل العمالة الوافدة إلى قوة وطنية أو استثمارية عبر سياسات متدرجة للجنسية والهجرة، بينما لا تزال المملكة في مرحلة تصميم نموذجها الخاص لتحقيق هذا التوازن. أما النصف الآخر من التحويلات فيرتبط بالعمالة الماهرة والمؤهلة التي تمثل إضافة نوعية للاقتصاد الوطني، وتشغل وظائف لا يتوافر لها بديل محلي كافٍ. وهنا يبرز دور سياسات التوطين الذكية في ردم فجوة المهارات وتوجيه الكفاءات الوطنية نحو المجالات ذات الطلب المرتفع. غير أن التحدي لا يقف عند حدود المهارات، بل يمتد إلى تكلفة ممارسة الأعمال التي دفعت القطاع الخاص، خصوصًا المنشآت الصغيرة والمتوسطة، إلى الاعتماد المفرط على العمالة الوافدة منخفضة التكلفة. ومع الوقت، نشأت شبكات مصالح اقتصادية (Economic Cartels) تُغذي اقتصاد الظل والتستر التجاري، وتشير التقديرات إلى أن هذا الاقتصاد الخفي قد يمثل ما لا يقل عن 25% من إجمالي التحويلات السنوية. تجارب الدول التي واجهت تحديات مشابهة تُظهر إمكانية إعادة تصميم العلاقة بين الوافد والاقتصاد المحلي عبر مسارين متكاملين: الأول: تحويل فئات من العمالة الماهرة إلى ممارسين مستقلين عبر رخص مهنية خاضعة لأنظمة ضريبية محفزة، تحولهم من عمال إلى فاعلين اقتصاديين منظمين، مع خفض تكاليف ممارسة الأعمال لتشجيع الاستثمارات الصغيرة والحد من التستر. والثاني: تحفيز الإنفاق المحلي عبر إتاحة فرص تملك العقار، وتطوير منتجات مالية وادخارية، وبرامج تقاعد للوافدين، إضافة إلى حوافز ضريبية وبرامج ولاء تشجع بقاء أموالهم داخل المملكة، وتزيد ارتباطهم المالي والاقتصادي بها. وتشير البيانات إلى أن نحو 70% من الوافدين ينحدرون من دول آسيوية وعربية، وأن استقرار الريال أمام الدولار يمثل عامل جذب لتحويل الأموال إلى الخارج كوسيلة لتجنب تقلب عملات بلدانهم. لذلك يصبح من المهم تحويل هذا الاستقرار إلى ميزة استثمارية داخلية عبر أدوات مالية ذكية تربط التحويلات بفرص محلية، وتخلق توازنًا بين الحرية المالية والسيادة الاقتصادية. في النهاية، لا ينبغي النظر إلى تحويلات الوافدين كخروجٍ للأموال فحسب، بل كفرصة لإعادة توجيه الثروة نحو الداخل. فالتحدي الحقيقي ليس في الحد منها، بل في تحويلها إلى استثماراتٍ مستدامة تدعم النمو الوطني. التحول من نموذج «بلد عمل» إلى «بلد مشاركة» هو الخطوة القادمة في مسار التنمية السعودية، لصياغة نموذجٍ فريدٍ يعيد تدوير الثروة محليًا، ويحوّل كل ريالٍ يغادر اليوم إلى استثمارٍ يبقى ويثمر غدًا، في تجربةٍ وطنية تستفيد من الخبرات الدولية وتضع بصمتها الخاصة في إدارة واحدة من أكبر أسواق العمل والتحويلات في العالم.