هناك صمت لا يُشبه أي صمت، صمت يضجّ بالمعاني ويغلي تحته بركان من الكلمات، ذلك الصمت ليس ضعفاً، بل هو أعلى درجات البيان حين تعجز اللغة عن حمل ما في القلب من وجع أو شوق أو خيبة. فكم من إنسان غاب عن الحديث لا لأنه لا يملك ما يقول، بل لأنه قال كل شيء ذات يوم، ولم يجد في القول نفعاً ولا في البوح خلاصاً، حينها ينسحب إلى صمته كما ينسحب الجندي المجروح من ساحة المعركة لا هرباً، بل حفاظاً على ما تبقى فيه من الحياة. الصمت أحياناً قرار يختاره المرء ليحمي ذاته من عبث النقاشات ومن خيبة التفسير الخاطئ، حين تصبح الكلمات خيانةً لما نشعر به حقاً، فيغدو الصمت ملاذاً وحصناً. لو جرب أحدهم صمتي، لعرف أن الصمت ليس سكوناً، بل عاصفة محبوسة في قفص، هناك تحت ذلك الهدوء ظلال من الأفكار والذكريات التي تحتبس والأحاديث التي لا تُقال، هناك دموع تتسلل إلى الداخل بدل أن تُسكب، وصرخات تختنق كي لا تُسمع... يُقال إنّ الحكيم هو من يتقن الصمت؛ لأن الصمت ليس فقط امتناعاً عن الكلام، بل ترفّعاً عن اللغو، فكم من جدال يستهلك أعمار الناس دون أن يُغيّر شيئاً! وكم من حروف نُطقت فزرعت في القلوب شقوقاً لا تلتئم! ... الصمت هو نوع من الرقي والتأمل والفهم العميق لما وراء الأشياء، كأننا نقول: لقد فهمت أكثر مما تظن، لكنني اخترت ألا أقول شيئاً، لأن ما يُقال لن يُفهم كما أريد. ولا يُجيد أحد الصمت مثل من ذاق الفقد، حين يرحل من نحب لا تعود الكلمات صالحةً للتعبير؛ لأن اللغة كلها تصغر أمام اتساع الغياب، من فقدَ عزيزاً يعرف أن الصمت بعد الفقد هو صلاة بلا كلمات ونحيب بلا صوت ووقوف على أطلال القلب الحزين. الصمت لا يعني اللامبالاة، بل يعني عمق الإحساس، فحين يصمت الفنان أمام لوحة تبهجه، أو العاشق أمام وجه يُدهشه، أو الشاعر أمام فكرة تستوقفه، فإن هذا الصمت هو ذروة التفاعل لا غيابه. الصمت في الفن هو التأمل، وفي الشعر هو المعنى بين السطور، وفي الموسيقى هو الفاصل الذي يجعل اللحن أجمل، حتى في الطبيعة الصمت له موسيقى خاصة، في الليل حين تهدأ الأصوات، في الصباح قبل أن يصحو العالم، في البحر حين يبتلع الموج أنفاسه لحظة السكون العميق. من جرّب الصمت عرف أن بعض المشاعر لا تُقال، وبعض الأفكار لا تُشرح، وبعض المواقف لا تستحق إلا أن نتركها تموت في هدوء، الصمت أحياناً هو الصديق الذي لا يخون، والسلاح الذي لا يُرى، والمأوى الأخير للقلب حين يتعب من التفسير. فيا من تظن أن سكوتي فراغ لو جربت ما جربت، لو شعرت بما شعرت، لصرتَ أنت أيضاً تكلّم الناس عن صمتي، وتبكي بلا صوت، وتحب بلا كلام ...