ليس الصمت فراغًا، بل امتلاء، كأن الكون كله ينحني ليستمع له، حين يتحدث دون أن يُسمَع. وفي زمن التهافت على الظهور، يصبح الانسحاب فنًا، وفي زمن الثرثرة، يصبح التروّي بطولة. الصمت يذوب في الحكمة، ويلتحف الوعي، فلا يطلب التصفيق، ولا يسعى للفت الأنظار، إنه ببساطة حالة من الاكتفاء، حالة من النباهة العميقة بأن ليس كل ما يُعرف يُقال، وليس كل ما يُقال يُفهم، وليس كل ما يُفهم يُقدَّر. الصمت المتكلم يعلّمك أن تزن الكلام بميزان الرشد، أن ترفض أن تكون تابعًا لصخبٍ لا يشبهك، أو مشتركًا في حوارٍ لا يضيف إليك شيئًا. أن تحفظ طاقتك لمن يستحق، ولما يستحق، وفي الوقت الذي يستحق. الصمت لا يعني الغياب، بل هو أحيانًا قمة الحضور. هو حين تجلس بين جمعٍ، فلا تتكلم، ولكنّك تشغل المساحة كلها بوقارك، وبثباتك، وبهذا السلام الهادئ الذي يحيط بك. هو حين ترى الزيف ولا ترد، لا لأنك عاجز، بل لأنك أكبر من أن تكون شاهدًا على مسرحية لا تستحق نظرتك. الصمت المتكلم.. هو اللسان الذي اختار ألا يُستخدم إلا عند الضرورة، والروح التي لا تجد راحتها إلا في التخفف من التفسير، والتبرير، والردود المتعجلة. هو صداقة مع الذات، وثقة بالمعنى، وإيمانٌ بأن الحقائق العميقة لا تصرخ، بل تُترك لتتجلى، الصمت المتكلم هو فنّ الإصغاء لما لا يُقال. هو القدرة على التقاط ارتجافات الروح في عيون الآخرين، وفهم آهاتهم المخنوقة في زوايا الحديث. هو البوح الصامت الذي يجري بين اثنين تحرراً من سجن الحروف، وتحادثاً بلغة الحضور. الصمت المتكلم ليس هروبًا من الضجيج، بل ارتقاء فوقه، إنه رفضٌ أن تشارك ضوضاء العالم عبثها، حين تدرك أن الصخب لا يعني الحياة، بل قد يكون دليلاً على فوضى الداخل. في كل حوار، هناك لحظة حرجة؛ إما أن ترتفع بالحديث إلى وعي نقيّ، أو تنحدر به إلى متاهة غرور أو جدال عقيم. هنا.. ينسحب الصمت المتكلم، لا يهرب، بل يترفّع. إنه لا يخشى المواجهة، بل يحتقر العبث، لا يخاف التعبير، لكنه يقدّس الإشارة. وكم من فكرةٍ نبيلة، وألمٍ راقٍ، وعشقٍ صادق، لم يجدوا لغتهم.. فاختاروا الصمت. لكنهم ما غابوا، بل تجذّروا في القلوب التي أدركت أن بعض المعاني لا تحتاج إلى صوت لتُقال. في الزاوية القصية من الوعي، يجلس «الصمت» لا كغياب للكلام، بل كحضور كثيف للمعنى. ليس الصمت فراغًا، بل امتلاء، كأن الكون كله ينحني ليستمع له، حين يتحدث دون أن يُسمَع. وفي زمن التهافت على الظهور، يصبح الانسحاب فنًا، وفي زمن الثرثرة، يصبح التروّي بطولة. وفي زمن التشتّت، يصبح الصمت وطنًا لمن أرهقه التيه. كم من مرةٍ تكلمنا.. ولم نقل شيئًا؟ وكم من لحظة صمتٍ كانت أبلغ من ألف خطبة، وأصدق من كل بيان؟ كلما تعمقتَ في نفسك وجدت أن الكلمات تضيق عمّا تشعر به. إن اللغة، بكل بهرجتها، تعجز عن احتواء ما في صدرك. الصمت هنا لا يعني العجز، بل الحكمة.. هو كالرجل العارف، الذي رأى كثيرًا، فعَلِم أن بعض الحقائق إن قيلت خُنقت، وأن بعض الجروح إن وصفت تعمقت. في عالمٍ لا يكف عن الكلام، يصبح الصامت متهمًا. يسألونك: «لِمَ لا تتكلم؟»، ولا يدركون أنك تتكلم طوال الوقت.. ولكن بصمت. إن نظراتك رسالة، وسكونك احتجاج، وغياب صوتك موقف. إنهم لا يسمعون إلا ما يُقال.. أما ما يُقصد، فهو في نظرهم صمتٌ لا يُطاق. أحيانًا، نحتاج أن ننسحب من طاولات الكلام، لا لنعتزل الناس، بل لنحمي أنفسنا من الإسراف في القول، ومن تشويه الحقيقة بمحاولات تبريرها. الصمت لا يعني الرضا، كما لا يعني الرفض دائمًا. إنه ببساطة، أرقى أنواع الإجابة.. عندما لا تستحق الأسئلة أن تُجاب. كل متكلمٍ في داخله صامت، ينتظر لحظة أن ينطق بعمق. وكل صامتٍ يحمل في جوفه متكلمًا يتأمل التوقيت، والمقام، والمعنى. المعضلة ليست في اللسان، بل في القصد. فكم من قائلٍ لم يقل شيئًا، وكم من صامتٍ أضاء ظلامًا بكامله. في لحظات التأمل، حين تضعف اللغة وتتعثر المعاني، يأتي الصمت كمخلّص. كمن يربت على كتفك ويهمس: «لا تقل شيئًا.. دَع الأشياء تتكلم عنك». هو عودة إلى الأصل، إلى النقطة التي تسبق الحرف الأول، والنبضة التي تسبق أول صرخة. الصمت المتكلم ليس انكسارًا، بل اتساع. هو بوح للداخل، لا للآخر. هو حين تعيش المصالحة مع نفسك، فلا تضطر لتبرير وجودك، أو شرح اختياراتك، أو خوض معارك لا تخصك ويبقى القول: ما نكتبه، ونقوله، ونُنادي به، قد يُنسى. لكنّ الصمت المتكلم يظل علامة، على أننا مررنا من هنا، بوعي، وبأثر، وباختيار فلا تخافوا من صمتكم إنه لسانك الآخر. وإن أحسنتم الإصغاء إليّ، أخبركم بأسراركم، وهداكم إلى ذاتكم، وعرّفكم على وجهكم الحقيقي.