لم تكن جلسة الشورى هذه المرة مجرد محطة بروتوكولية تُضاف إلى سجل الدولة، وإنما كانت مناسبة تكثّف صورة وطن يعيد كتابة تاريخه بأدوات جديدة، فحين اعتلى ولي العهد المنصة، ممثلًا عن مولاي خادم الحرمين الشريفين -حفظهما الله- بدا الخطاب الملكي كأنه لوحة إستراتيجية مرسومة بخطوط واثقة، لا تعرض الماضي بقدر ما تضع الحاضر على ميزان الغد، ففي كل جملة كان هناك وعد ضمني بأن المملكة دخلت مرحلة لا عودة عنها، وهي مرحلة الاقتصاد المتنوع الذي يتجاوز الاعتماد على النفط، ويفتح أبوابًا متعددة للاستثمار والابتكار. ولعل المشهد الاقتصادي الذي انعكس في الخطاب يشي بحقيقة مذهلة، مفادها أن السعودية التي كانت تُعرف طويلًا بكونها عملاقًا نفطيًا صارت اليوم تتحدث عن اقتصاد غير نفطي، تجاوز نصف الناتج المحلي، وعن نمو في قطاعات مثل السياحة والخدمات اللوجستية والصناعة والتقنية، ولم يعد النفط هو الغاية الوحيدة، فهو جزء من مزيج متكامل، وهناك إرادة صريحة لتهيئة وطن يعيش على أكثر من رافعة اقتصادية، ويقف على أكثر من ساق في عالم يتغير بسرعة. وفي نبرة الخطاب إحساس أن المملكة تضع أمام نفسها امتحانًا تاريخيًًا، يتمثل في أن تكون نموذجًا لدولة نفطية لم يحبسها الذهب الأسود في مكانه، إذ استعملته جسراً نحو تنوع اقتصادي راسخ. ومن يتأمل مسار السنوات الأخيرة يلمس كيف تحولت رؤية 2030 من وثيقة إصلاحية إلى واقع يتجسد في المدن والطرق والجامعات والمطارات، وما يثير الدهشة أن المشاريع الكبرى لم تُطرح كأبراج أسمنتية فقط، وإنما كمنظومات اقتصادية واجتماعية كاملة، فمدينة نيوم ليست مجرد مشروع معماري، بل إنها وعد بتغيير نمط العيش والإنتاج، وصندوق الاستثمارات العامة ليس مجرد وعاء مالي بقدر ما هو في جوهره أداة لإعادة تشكيل السوق المحلية، وفتح آفاق الاستثمار الدولي، والقطاع السياحي لم يعد ترفًا أو رفاهية، إذ صار صناعة وطنية تسهم في خلق الوظائف وتوليد الدخل وتنويع مصادر الاقتصاد. وضمن هذا السياق، يتضح دور التقنية بوصفها القلب النابض للتحول الاقتصادي، وهنا يبرز إسهام معالي المهندس عبدالله بن عامر السواحه، الذي قاد قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات نحو أفق غير مسبوق، فتحت إشرافه انطلقت المملكة لتصبح ضمن الدول العشر الأولى عالميًا في سرعة الإنترنت، وتوسعت في مراكز البيانات والحوسبة السحابية، وفتحت الباب أمام استثمارات ضخمة في الذكاء الاصطناعي، وفي كل منتدى دولي يتحدث السواحة بلسان واثق عن طموح السعودية لتكون مركزًا إقليميًا وعالميًا للتقنية، وعن مشاريع تلامس حياة الناس من أبسط تفاصيلها إلى أعقد ابتكاراتها، ولم تقتصر جهوده على تحديث البنية التحتية الرقمية، بل امتدت إلى بناء جيل من الشباب السعودي القادر على المنافسة والإبداع في سوق عالمية شرسة، والتقنية هنا لم تعد قطاعًا منفصلًا، فهي صارت العمود الفقري للاقتصاد الجديد، من التجارة الإلكترونية إلى الخدمات الحكومية، ومن ريادة الأعمال إلى الصناعات المستقبلية. وبرأيي ما يجعل هذه اللحظة الاقتصادية مختلفة عن غيرها هو أن الرؤية لا تُدار بعقلية المحاسبة وحدها، ولكنها تُدار أيضًا بعقلية الإبداع والاستثمار في الإنسان، فلقد وضع الخطاب الملكي المواطن في قلب المعادلة، مؤكدا أن كل نمو اقتصادي لا قيمة له ما لم ينعكس على جودة حياة الفرد، وحين يسمع المواطن أن التعليم يُطور والصحة تُدعم والتقنية تُيسر حياته، فإنه يدرك أن الاقتصاد ليس مجرد أرقام في التقارير بقدر ما هو واقع يتجسد في حياته اليومية، وهنا يلتقي الاقتصاد بالإنسان، ويغدو الاستثمار في البنية التحتية مرادفًا للاستثمار في الطمأنينة. وما يلفت في الخطاب أيضًا هو تلك الثقة الواضحة في مواجهة التحديات، حيث نعلم كلنا ما يمر به الاقتصاد العالمي من اضطرابات متلاحقة، تتمثل في أسعار طاقة متذبذبة، وتضخم متزايد، ومخاطر جيوسياسية تعصف بالأسواق. غير أن السعودية -ولله الحمد- تقدم نفسها كنموذج للصمود والقدرة على التكيف. وأمضي، وأعود لأقول إن الخطاب الملكي لم يكن مجرد إعلان إنجازات، إذ جاء تأكيدًا أن الطريق نحو التنوع والاستدامة طويل يتطلب جهدًا وإصرارًا، ويحتاج إلى مشاركة جميع الأطراف، وفي ذلك بدا وكأنه دعوة مفتوحة لكل سعودي أن يكون جزءًا من الحلم الاقتصادي الكبير، وشريكًا في بناء وطن لا يكتفي بأن يعيش على ثرواته الطبيعية، وإنما يسعى لأن يصنع ثروته الفكرية والتقنية والإنسانية. ختامًا، لا يخفى على أحد أن القاعة التي امتلأت بكلمات ولي العهد لم تكن مجرد مسرح سياسي، وإنما بدت كأنها ورشة عمل كبرى للأمة كلها، فكل ما جاء في الخطاب لم يكن وصفًا لماضٍ منجز بقدر ما كان أقرب لكونه تكليفا بمستقبل مطلوب، لذا أنا كلي ثقة بأن المستمعين جميعهم خرجوا وهم يحملون شعورًا بأن المملكة لا تروي حكايتها للعالم فقط أكثر من كونها تكتب فصلًا جديدًا من قصة الاقتصاد الإنساني الذي يضع الإنسان قبل الأرقام، ويجعل التقنية وسيلةً لكرامة الفرد، ويحوّل الثروة إلى مشروع حياة. إنها لحظة سعودية استثنائية بدأت من خطاب ملكي بصوت ولي العهد، وانتهت بسموه وهو يعيد تعريف الاقتصاد، ليكون رواية وطن يكتب نفسه من جديد.