تطفو على السطح من حين لآخر في كثير من البلدان العربية نقاشات مناطقية مشحونة بالعاطفة والانفعال. يتبادل فيها الناس اتهامات التمايز والتفوق بين أبناء هذه المنطقة أو تلك. لكن المتأمل بعمق، والمتفكر بعقل نقدي في هذه الدعاوى، سيجد أنها دعاوى هشة ومائعة، بل أقرب إلى السراب منها إلى الحقيقة. فكلما تعمقت في محاولة بنائها على أسس عقلية وعلمية، كلما بدأت تتلاشى وتذوب. على سبيل المثال، الادعاء بأن أبناء «جنوبستان» هم الأصل، أو أنهم أكثر تميزًا من أبناء «شمالستان» والعكس. لو حاولت أن تتقدم فقط خطوة للأمام لفحص هذا الادعاء، ستجد نفسك مضطرًا إلى تحديد متى نشأ هذا التقسيم أصلًا. لكي تعرف بالضبط أين يقف حد آخر شخص من هؤلاء القوم المميزين، فهذان التقسيمان، أو أي تقسيمٍ آخر، هما نتاج السياسة وحدود الدول التي تتغير باستمرار عبر الزمن. ما يُعرف اليوم بجغرافيا منطقة ما، لم يكن موجودًا بهذه الصورة قبل مئة أو خمسمئة أو ألف سنة. إذًا، على أي فترة زمنية نُسقط هذه التمايزات؟! وما هذه إلا أول المعضلات التي تُبيِّن هشاشة هذه الدعاوى. ثم إننا حين نغوص أكثر، نجد كثيرًا من الإشكاليات، وأن الإشكال ليس جغرافيًا فقط، بل عرقي أيضًا. فقد نجد قبيلة أو مجموعة بشرية تسكن اليوم في «شمالستان»، لكنها في أصولها التاريخية، الممتدة قبل ألف عام، كانت في «جنوبستان». وإذا تعمقنا أكثر، قد نجد لها جذورًا في «شمالستان» أو ربما في مناطق أخرى أبعد تمامًا عن هذا التصنيف. فالهويات تتنقل، وتتحول، وتتمازج، وتعيد تشكيل نفسها بفعل الترحال، والتزاوج، والتفاعل الثقافي، والتحولات السياسية. التعصبات المناطقية، تنهار وبسرعة أمام التحليل العقلي المجرد، لأنها ببساطة لا تملك أساسًا موضوعيًا. فكل محاولة لتثبيتها زمانيًا أو مكانيًا أو عرقيًا، تكشف هشاشتها وتناقضاتها، وتبقى في النهاية مشاعر عاطفية لا أكثر. هذه الحالة لا تنطبق فقط على الشعوب المختلفة أو الدول المتجاورة، بل وفي داخل الدولة الواحدة، ومن محافظة إلى أخرى، ومن قرية إلى قرية. إنها حالة من التعلق المتخيّل بهوية ضيقة يُراد لها أن تكون صلبة، بينما هي في حقيقتها سائلة. في زمن الحداثة والعقل والعلم، ينبغي علينا أن نعيد النظر في هذه العصبيات الصغيرة، لا لننكر الانتماء، بل لنحرره من التوهم، ونفهم أن التمايز الحقيقي لا يأتي من الموقع الجغرافي، بل من السلوك، ومن القيم، ومن المساهمة في بناء الإنسان والحضارة. أيضًا، الميزات الطبقية العرقية هي الأخرى غير موضوعية وأكثر هشاشة. واليوم، مع تطور وسائل فحص الحمض النووي، بدأت تتلاشى هذه العقيدة بالتميز العرقي؛ إذ أصبح من المستحيل أن يكون هناك شعب يتكون من سلالة واحدة. وأصبحنا نرى العجب من نتائج هذه الفحوصات، وكيف تكشف عن تقارب أناس كانوا يُعتبرون متباعدين، والعكس كذلك. وذابت الفروقات الطبقية تحت مجهر العلم، لتؤكد مرة أخرى ما هو مؤكد في كتابنا العزيز وديننا الحنيف. أن التقوى هي معيار الكرامة، لا الجغرافيا ولا القبيلة.