يحلو لكثير من الجماعات عندما يسمعون تصريحًا دبلوماسيًا لدولة في حق أخرى مقارنة أنفسهم بها، وهو من باب قياس الجماعات والأحزاب على الدُّول، رغم أنَّه قياس فاسد للفارق المؤثر. فالدُّولة كيان سياسي يمثل مصالح مجموع الشعب ويحميها، وتعترف بها الأطراف الدولية، أما الأحزاب والجماعات فلا تمثل سوى من ينتمي إليها، وقد تكون معترفًا بها أو محظورة، الدول تعبِّر عن أوطان، أما الأحزاب فتمثل أيديولوجيات ومصالح فئوية فقط، لذلك يحق للدول عقد الاتفاقيات السِّيادية، وبيدها إعلان الحرب والسِّلم بخلاف الجماعات والأحزاب. وحتى في الدول الديموقراطية التي تنشط فيها الأحزاب تكون الأحزاب داخلية فحسب، بمعنى أنها تنتظر التأثير في القرار السياسي عبر الدَّولة، ولا تتصرف كمليشيا تعقد اتفاقات خارج دولها قبل وصولها إلى السلطة، والتعالي على الفروق بين الجماعات والدُّول يُنتج تبعية عمياء، أو قرارًا مصادرًا لتلك الجماعات، وهو ما وقعت به الأحزاب الشُّيوعية، حتى قيل في وصف تبعيتهم: «إنَّهم إن أمطرت في موسكو، فتحوا في بلدانهم المظلات»، وكانت تلك الأحزاب بحق تتحرك وفق مصالح موسكو الإستراتيجية، فتهادن في منطقة وتحارب في أُخرى، لا تبعًا لمصالح الدول التي تتحرك بها، ويُفترض أن يكونوا مواطنين فيها، بل تبعًا لنظرة موسكو الإستراتيجية وفي الحرب الباردة كان للسوفييت حساباتهم الكبرى التي تبتعد عن كثير من الدول التي تحركت فيها الأحزاب الشيوعية. ومهما كانت العلاقة بين الدول، فإنَّ الدولة تبقى محتفظة بقرارها الوطني ما دامت غير مصطنعة مدعومة من احتلال، كحكومة فيشي في فرنسا 1940-1944، التي كانت دمية بيد ألمانيا النازية، وتأسست بعد سقوط فرنسا بيد ألمانيا، وفي الحرب العالمية الثانية حالفت ألمانيا النازية الاتحاد السوفيتي في معاهدة عدم الاعتداء 1939، ثم غزت الدولتان بولندا، وتقاسمتاها بينهما، فهذا لم يكن يعني أنَّ ألمانيا تابعة للسوفييت، ولا أنَّ السوفييت يتبعون ألمانيا، إذ غزت ألمانيا لاحقًا الاتحاد السوفييتي في العملية (بربروسا)، وسقط من السوفييت نحو 20 مليون قتيل حتى وصلوا إلى برلين، وحينها كانوا في حلف مع الولاياتالمتحدةالأمريكية. إذ بدأ التحالف السوفييتي الأمريكي عام 1941، وقدمت أمريكا للسوفييت دعمًا سخيًا ساهم في تحقيق انتصارهم على ألمانيا، وشمل دبابات شيرمان، مدافع، وطائرات، وذخائر، وغذاء وغير ذلك حتى نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، وحينها انقلبت المسألة إلى حرب باردة بين الدولتين، وسباق تسلُّح وصل إلى تصنيع أعتى أسلحة الدَّمار الشَّامل، وهذا الذي كان بين الدُّول فيما لا تقدر عليه أحزاب، فالأحزاب لا تحالف دولًا إنما تتبعها، فهي لا تمثل حدودًا سياسية تسعى للحفاظ عليها، ولا تمثل شعبًا كاملًا على اختلاف تنوعه الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، إنما تكون ممثلة للون وحيد، وحين يرتبط حزبٌ بدولة غير دولته، فإنَّ هذا يعني خضوعه لكفاءة تلك الدولة السِّيادية وأجهزتها من مخابرات، ومراكز صناعة قرار إستراتيجي، بما يمكنها من التحكم بتلك الجماعات كما يحلو لها، وإن لم تقر بذلك تلك الأحزاب. فمن الوسائل التي تمكن تلك الدول من مصادرة القرار السّياسي، الموقف الأيديولوجي، فحين تتبنى جماعة العنف مثلًا سبيلًا وحيدًا، فهذا يعني أنَّها محصورة في خياراتها السياسية، وتستطيع الدول التي تزعم أنَّها تحالفها توظيفها في إطار عملياتها العسكرية، ومن الوسائل كذلك ما يُعرف بالإغراق المالي، فحين تتضخم جماعة أو حزب، تصبح معتمدة على مصدر الدخل الذي يشغِّل كوادرها، وهنا تبدأ المطالب مقابل تسهيل تلك الأموال، وهكذا شيئًا فشيئًا يصادر قرارها السِّياسي، فضلًا عن الفرق بين عقلية الدولة وعقلية الجماعات والأحزاب، فرُبَّ معلومة توظفها أجهزة مخابرات لدولة، لا تراها جماعة ذات أهمية، وكم اشترت دول وثائق أو تسريبات ممن يوصفون بالمعارضة، وفي واقع الأمر كانوا يخدمون أجهزة لدولة معادية دون أن يدركوا فداحة ما يقومون به. والحاصل من هذا أنَّ كل جماعة تعامل نفسها كدولة، وترى أنَّها يمكنها أن تعامل الدول في علاقة ند لند، وتقيس نفسها على الدول الحقيقية وعلاقاتها، فإنَّها ترمي بذلك نفسها في براثن الاستغلال السياسي لتلك الدول، وإن أطالت تلك الجماعات تبريرها لمواقفها وأفعالها، بخلاف الدول، فإنَّها تحتفظ بقرارها الوطني، ويمكنها أن تتخير بين المواقف، وفق رؤية إستراتيجية بعيدة المدى، ويصعب بذلك أن تُستغل أو تُوظَّف، فالدول تحركها مصالح عموم الشَّعب وأمنها القومي، بخلاف الأحزاب التي تبدأ بما تحسبه علاقة نديِّة، وتنتهي بها اللعبة إلى التبعية.