في مجتمع اعتاد البساطة والاعتدال، بدأت ملامح جديدة تظهر في بعض المناسبات الاجتماعية، تُعبّر عن تحول غير محمود من المعنى إلى المظهر، ومن الفرح المتزن إلى الاستعراض المُكلف. فقد أصبحت بعض الاحتفالات تُدار بعقلية التفاخر، لا بروح اللقاء، ما أحدث خللاً ثقافياً واجتماعياً يستحق التوقف والتأمل. تحدثتُ في مقال سابق عن مظاهر البذخ في حفلات الزواج، وما لبثت هذه الظاهرة أن تمددت وتوسّعت، ضاربة بعض احتفالات أعياد القبائل وحفلات التخرج، وخلقت ساحة جديدة للتكاليف الباهظة والبذخ غير المبرر. لقد تحوّلت حفلات الأعياد القبلية من فرح أسري إلى عبء جماعي، بعد أن خرجت من إطارها البسيط ضمن الأسرة أو الحي، إلى احتفالات كبرى على مستوى القبيلة بأكملها، مما أرهق الأهالي بتكاليف إضافية تفوق طاقتهم، إلى جانب ما ينفقونه في أعيادهم الخاصة ومتطلبات أسرهم. وهذه المظاهر، التي لم تكن موجودة في السابق، فرضها التقليد والمحاكاة، حتى غدت واقعاً مستحدثاً يتمثل في إقامة معايدات فخمة، تتطلب استئجار قاعات أفراح باهظة القيمة، واستقبال أعداد كبيرة من أفراد القبيلة، وتقديم ولائم وأصناف من المأكولات، غالباً ما ينتهي جزء كبير منها إلى مكبّات النفايات. وربما يقود هذه الموجة بعض الشباب الذين لا يدركون حجم الخسائر الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على مثل هذه الممارسات، ما يدفع بكبار السن إلى تقبّلها على مضض، إما خضوعاً للواقع أو خشية من النقد الاجتماعي، وهنا يبرز تساؤل مهم: من يوقف نزيف التكاليف؟ وهل تحوّلت هذه الاحتفالات من موروث اجتماعي جميل إلى مظاهر استنزافية تُرهق كاهل المجتمع وتُضعف روح العيد الحقيقية؟ ولم تتوقف موجة البذخ عند حفلات الأعراس أو الأعياد القبلية، بل امتدّت أيضاً إلى حفلات التخرج في المدارس، والتي تحوّلت من لحظات رمزية وبسيطة إلى مناسبات مُكلِفة ترهق أولياء الأمور، حتى في المراحل الدراسية المبكرة مثل رياض الأطفال والابتدائية. لقد بات من المعتاد إقامة حفلات فخمة داخل المدارس وقبل أداء الاختبارات، وكأن النجاح أصبح مسألة مفروغاً منها، وكأن الرسوب لم يعد له وجود في المشهد التعليمي، هذا الواقع المستحدث يشير إلى خلل في المفاهيم، ويعكس تراجعاً في قيمة التحصيل العلمي الفعلي أمام مظاهر الاحتفاء الشكلي، حيث يسبق الفرح الإنجاز، ويتحوّل النجاح إلى صورة افتراضية تُكرَّم قبل أن تتحقق. إن العيد في أصله شعيرة سنّها الإسلام، وفرحة روحية تُغني عن المظاهر المبالغ فيها، يكمن جماله في بساطته، وبهجته في معانيه التي تسكن النفس، لا في تكاليفه أو مظاهره الخارجة عن مقاصده. خاتمة البروق : لقد أصبح البذخ عنواناً غير معلن لكثير من مظاهر الفرح، فحتى حفلات النجاح، والتخرج، والتعيين، وأحياناً مجرد الحصول على "نجمة سناب شات"، صارت تُنظّم لها احتفالات باهظة لا تختلف كثيراً عن حفلات الزفاف الفارهة. وبين فخر الانتماء ومغالاة المظاهر، تضيع الحدود بين الفرح المشروع والإسراف المذموم، في مشهد يحتاج إلى مراجعة مجتمعية جادة، تُعيد التوازن، وتُعيد للفرح معناه الحقيقي.