غزّة كانت محور القمة العربية في بغداد. كانت حاضرة في قمة مجلس التعاون والقمم الثنائية مع الرئيس الأمريكي. دونالد ترمب يعترف مداورة بأن هناك «مجاعة» في القطاع ويعد بأنه «سيهتم» خلال شهر من الآن، لكن بنيامين نتنياهو راح يناكفه لأنه همّشه خلال وجوده في المنطقة فيمضي في انتقامه الوحشي مضيفاً مئات الضحايا من الفلسطينيين إلى حصيلة ثقيلة أصلاً. الأوروبيون لم يعودوا يقولون لإسرائيل سوى: «كفى»، والعالم عاجزٌ ومستقيلٌ من أي مسؤولية إزاء عدّ عكسي متسارعٍ لإبادة باتت محققة. أسبوع القمم كان ينبغي أن يكون حاسماً في إنهاء الكارثة الإنسانية الجارية، إذ يُفترض أن ترامب صار أكثر وعياً بهَوْل ما يحصل وبضرورة التحرّك، فمن بين إشارات كثيرة لافتة كانت هناك عناوين في «نيويورك تايمز» تنبهه إلى أن إسرائيل مجرمي الحرب «ليست حليفة لأمريكا»، أو تقول «غزة تحتاج إلى طعام وليس إلى كلام»، فهل هناك امتهان أفظع من هذا للكرامة الإنسانية؟ المسألة أصبحت مرتبطة الآن بمنقذٍ غير متوقَّع، بما يراه الرئيس الأمريكي علّه إذ عاد لرؤية حفيده حديث الولادة يتذكّر أن ألوفاً مثله قضوا بقنابل إسرائيلية- أمريكية فور إبصارهم النور. فهل تتوفّر لديه الإرادة والقدرة على جذب «صديقه» نتنياهو إلى قبول ما يطرحه الوسطاء وما يريده العالم، أم أنه لا يزال ينظر إلى القتل والتدمير الإسرائيليَين بأنهما مساهمة «بنّاءة» في مشروعه العقاري؟ إذا صحّ ما تقوله الصحف العبرية من أن ترامب «سئم» صديقه هذا فالأحرى أن يترجم ذلك في سياسته، لأن العالم تجاوز منذ زمن السأم إلى الاشمئزاز من هذا المخلوق. أن يأتي ترامب إلى الخليج أولاً فهذا اختيارٌ ذو دلالة كبيرة لرئيس/ رجل أعمال يتمحور تفكيره وخطابه حول مستقبل أمريكا ومصالحها، إذ إن السعودية والإمارات وقطر، التي زارها وأبرم معها «عقوداً تريليونية»، كما تمنّى، تشاركه هذا الهاجس فيما هي تعمل لمصالحها ومستقبلها. كان لدى ترامب إدراكٌ مسبق، حتى قبل رئاسته الأولى، بأن التطوّر السريع لهذه المنطقة يسير في اتجاه طموحاته، ليس فقط لما تملكه من رساميل فالرساميل توجد لتُستثمر في مشاريع للأجيال القادمة. غير أن هذه الدول وشعوبها اختارت المسالمة وتريد أن تعيش تجاربها وتطوّرها في محيط يشاركها الأمن والاستقرار، وليس في بيئة إقليمية تتناسل فيها الحروب، بفعل تنافس مطامع عدوانية دموية لإسرائيل أو مغامرات توسّعية لإيران. فمن هذا المنظور، إذا كان الرئيس الأميركي يريد حقّاً تفعيل مبدأ «إنهاء الحروب» فإن غزّة يمكن أن تكون البداية، والأحرى أن يبلور استراتيجية ترتكز إلى التجربة الرائدة لدول الخليج لا أن يشجع مشاريع سيطرة وهمية باسم «تغيير وجه الشرق الأوسط» أو غير ذلك، ففي هذه المنطقة العاجّة بالأديان والمذاهب هناك «إمبراطورية» واحدة ممكنة الوجود ولم تجرّب بعد، تاريخياً، إنها «إمبراطورية التعايش السلمي». ما إن انتهت الجولة الخليجية لترامب، وقبيل انعقاد القمة العربية ال34 في بغداد، حرّكت إسرائيل «عربات جدعون»، التي تعني ببعدها الديني عملية من أجل «الانتصار النهائي»، ولم يكفِها توسيع سيطرتها على القطاع لهذا «الانتصار» بل بدأت الآن إعادة احتلاله وحشّرت مليونين من سكانه في منطقة/ معسكر اعتقال محاصرين بلا أغذية ولا أدوية ولا ماء كأساس للحياة، تمهيداً لتهجيرهم قسرياً. فمن يوقفها؟ لا أحد... في القمة العربية ال33 في البحرين كانت هناك دعوة إلى «نشر قوات حماية وحفظ سلام دولية تابعة للأمم المتحدة في الأرض الفلسطينية المحتلة إلى حين تنفيذ حل الدولتين» وإلى «عقد مؤتمر دولي تحت رعاية الأممالمتحدة، لحل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين»، ولم تتكرر هذه الدعوة في قمة بغداد، كما لو أن طرد وكالة «الأونروا» وتجويع الفلسطينيين لتهجيرهم بات مؤشراً لانتزاع قضيتهم من أيدي الأممالمتحدة وأي اهتمام دولي. كان ذلك في أهداف ترامب خلال رئاسته الأولى، وإذا به اليوم- بعد فوات الأوان؟- محطّ الآمال لتصحيح ما شجّع إسرائيل على ارتكابه! كان رفع العقوبات المفروضة على سوريا بين 11 قضية وأزمة مطروحة على القمة العربية، فإذا بالرئيس الأمريكي يرفعها بسطرٍ في خطابه أمام منتدى الاستثمار السعودي/ الأميركي. هذا نموذج ترامبي خالص لكنه يواجه معضلة مع الثنائي نتنياهو- سموتريتش، فهل أن «الاستثناء» الممنوح أمريكياً وغربياً إلى إسرائيل يشمل أيضاً عتاة المتطرّفين فيها. وفي محطاته الخليجية الثلاث حرص ترامب على تأكيد إمكان التوصّل «قريباً» إلى اتفاق نووي جديد مع إيران، وهو ما ترحّب به عواصم الخليج، لكن يبدو أن الوتيرة الإيرانية أقل سرعة، فالحوثيون يواصلون إطلاق الصواريخ على إسرائيل ويتلقون الردود المدمّرة، كما أن طهران أوفدت إسماعيل قآني، قائد فيلق القدس، إلى بغداد عشية القمة العربية في رسالة مفادها أن الحقبة الإيرانية لما تنحسر بعد عن العراق. * ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»