حين نتحدث عن دور الجامعات في كل المجتمعات فنحن نتحدث عن صناعة الفكر وإنتاج الحضارة، بما يتطلبه ذلك من صقل المواهب واكتشاف الإبداع وبما يتوازى معه من إرساء القيم وتأصيل الأخلاق، وقد ساهمت أغلب الجامعات الغربية العريقة في تجسيد تلك الصورة، فخرجت العلماء والمبدعين والمخترعين الذين أضاؤوا سماء الكون بنتاجات إبداعاتهم، وساهموا في التقدم الإنساني في كل المجالات، الصناعي والاقتصادي والتكنولوجي. وفي المقابل وبكل أسف، حين ننظر إلى وضع جامعاتنا العربية عموما، والمحلية على وجه الخصوص، نجدها غالبا تهمل جانبي البحث العلمي وخدمة المجتمع، إلامن بعض (الشو) والأخبار المكررة كل عام على المواقع الالكترونية لتلك الجامعات، ومع ذلك فإن تركيزها يكون على الجانب التعليمي الأكاديمي فحسب لم يمنحه تميزا يشفع لها في إهمال الجانبين الآخرين، فهناك عديد من الملاحظات المهمة على الخطط والمقررات والأساليب والأساتذة، وحتما على مخرجات تلك الجامعات نوعا لا كما، بل ومما يلفت النظر أن أغلب جامعاتنا المحلية بكلياتها وأقسامها المختلفة لم يتعد دورها استكمال عملية الحشو المعرفي والتدجين الكمي للمعلومات،التي ابتلي بها الطالب خلال كل مراحل التعليم العام. وتم الاكتفاء بالمستويات الدنيا من الهرم المعرفي، وغاب أو غيب التفكير المنطقي القائم على التحليل والاستنتاج والاستدلال، المفضي إلى الابتكار والإبداع. ومما فاقم المشكلة وزادها تعقيدا أن جامعاتنا نسيت أو تناست أن دورها أكبر من كونها جسرا للحصول على وظيفة أو ممرا للعبور المهني إلى سوق العمل أيا كانت المهنة، وانحصر دور الأقسام العلمية في الجامعات في متابعة نشرات وزارة العمل ومدى الاحتياج المهني للتخصص من عدمه، وتكيفت خطط أغلب الجامعات قسريا - بشكل غير مبرر- ُ مع متطلبات سوق العمل واحتياجاته الوظيفية، بل وأغلقت أقسام وعلق القبول في أخرى نظرا لمؤشرات البطالة وإحصاءات التوظيف، وكأن خريج الجامعة مرسوم له أن يكون موظفا أو مهنيا لا غير! ومع كل الاحترام لهذا المطلب وأهميته، إلا أن في ذلك تقزيما للعلم وتحجيما للمعرفة ونتاجها الإنساني، ولا سيما أن الحضارة الإنسانية الحديثة وكل مخرجاتهااعتمدت على النوع لا الكم، فعدد المخترعين والعلماء لا يتجاوز المئات لكنهم أثّروا وأثْروا حياة ملايين البشر في كل المجالات، وتدين لهم البشرية - بعد الله بالفضل في كل المنجزات التي تنعم بها الأجيال الحالية على كل الصعد. لذلك، أتمنى من وزارة التعليم ومن وزيرها الحالي إعادة دور الجامعات الحقيقي، ليس فقط في مجال البحث العلمي وخدمة المجتمع، بل كذلك في صناعة العقول وإنتاج المعرفة الأصيلة، وأن تعود آمالنا مجددا بولادة حضارة عربية وإسلامية عصرية من رحم أقسام الجامعات نقلا عن صحيفة مكة