من لم يقرأ التأريخ قراءة جيدة، يظن أن العالم القديم كان خاوياً من العلم والفكر والفن ومعالم الحضارة. كثيرون ممن بهرتهم الحضارة الغربية بمنجزاتها التي لا جدال في كونها منجزات عظيمة وباذخة. كثيرون سرق أعينهم بريق العلم خلال المائتي عام الماضية، فحددوا عمر العلم بمائتي عام. كثيرون وليسوا قلة من لا يرون للفكر القديم قوة، ويرون في الفكر قوة دافعة تسير للأمام ولا تلتفت للخلف، لأن هذا لا يليق بالعقل ما بعد الحداثي. هل صحيح ما يقولونه إن العالم القديم لم يكن على شيء؟ دعونا نسترجع التاريخ قليلاً، ربما كان عالم التكنولوجيا باهراً للعين، إلا أن كل ذي عينين يستطيع أن يرى أهرام الجيزة وما فيها من إبداع فني عظيم بدأ بنائه في سنة 2480 و2550 قبل ميلاد المسيح عليه السلام. هذه التحفة المعمارية بما في إنجازها من صعوبة وتعقيد بدأها المهندس اميحوتب، وزير الفرعون زوسر من الأسرة الملكية الثالثة، تم نصبها على الضفة الغربية لنهر النيل قبل المسيح ب 25 قرناً! ولم يكن المعمار هو الفن الوحيد الذي عرفه المصريون القدامي، بل هم من علموا البشرية الرياضيات والحساب، ومنهم أخذها فلاسفة اليونان. واليونان هم الأمة التي شهدت مغامرة العقل الأولى، فهم من بين شعوب الأرض من اكتشف الفلسفة – ملكة العلوم الإنسانية – على حد تعبير الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، ولم تقدم الفلسفة الحديثة شيئاً أصيلاً كامل الأصالة بحيث لا تجد أساسه في الفلسفة الإغريقية، إنهم لم يزيدوا سوى أن شرحوها وأعادوها في ثياب جديدة. اليونان هي بلاد فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو، وهي بلاد الاسكندر الأكبر الذي حكم العالم القديم كله وهو في ريعان الشباب. الهنود لهم فلسفتهم التي يعتزون بها ولهم البراعة في الطب منذ زمن بعيد، ولا زالوا يرفضون أن ينظر لطبهم على أنه مجرد «طب بديل». البابليون هم أهل القوانين الأولى والفرس هم أهل الإدارة والترتيب وتدوين الدوايين ومأسسة الدولة وهم الذين حكموا الهلال الخصيب وبابل، وغزوا الجزر اليونانية واحتلوها. وكانوا إحدى الحضارات الهائلة في ذلك الزمن، زمن ملوكهم الكبار: داريوس وسايروس و زيركس. أين كنا في ذلك الوقت؟ لقد كنا خارج التاريخ. إنها كلمة قاسية، لكنني سأكررها لكي يتصورها القارئ السريع جيداً. لقد كنا خارج التاريخ. ثم بعث الله فينا محمداً بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، رجلاً منا، يأمر بعبادة الله وحده ويأمر بتحرير الإنسان من كل الأوثان، ويأمر بحسن الخلق، ويأمر بالعدالة الاجتماعية والإحسان للوالدين والجار والصديق، ويحض على إطعام الفقير والمسكين وابن السبيل ويقول فيما معناه: ليس المؤمن من ينام وجاره جائع. هذا الدين الذي آمن به الناس في زمن الرسالة، كان النور الذي حمله المؤمنون في قلوبهم وانطلقوا يحررون الأرض من الظلم والطغيان والإجرام الذي كان يمارسه «استعمار ذلك الزمان» أعني الفرس والرومان، لدرجة أن المسيحيين كانوا يسعون بكل وسيلة لتسهيل مهمة المسلمين في الانتصار على الجيش الروماني المجرم الذي كانت الأرض كلها تضج من فجوره وطغيانه وقسوته. إذا تصورنا كل ما سبق، عندها سيكون فهمنا أعمق لكلمة حبيبنا وزعيمنا أبا حفص عمر بن الخطاب عندما قال: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله». فهو عندما أطلق هذه العبارة التي يمر بها الناس في عجلة، كان يتصور كل ما وصفت لك هنا، وكان يعرف ما هي عقوبة الجحود ونكران الجميل. كما كان يعرف أن العرب مكثوا زمنا طويلاً قبل الإسلام دون أن ينجزوا أي شيء، وعاش عمر ليرى إنجازات هذه الأمة التي كانت هي الأمة الأولى والقوة العظمى في زمنه، عندما كانت تستضيء فعلا بضياء الإسلام وبروحه الحقيقية. إن الواحد منا عندما يهزأ بالدين، أو عندما يسيء الأدب مع نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو يمارس الجحود في أبشع صوره، ولن يقول له أحد أحسنت صنعاً. وحتى الحضارة الغربية لن تعترف به كمفكر أو كفيلسوف حر جريء كما يتصور، بل أكبر ما سيقال لك إنك شيء صغير قادم من بلاد العرب ومتأثر بنيتشه أو فويرباخ أو ماركس أو غيرهم من الفلاسفة الماديين الغربيين، لا أكثر. ولن يروا أنك أتيت بإنجاز لأنك حقاً لم تأت بإنجاز بل بكارثة وبسوء أدب ونكران للجميل. لذلك ينبغي أن تعيد النظر. ثم تعود فترفع رأسك مفتخراً بدينك وهويتك وتردد مع الشاعر المصري محمود غنيم: هل يطلبون من المختار معجزةَ يكفيه شعبٌ من الأجداث أحياه