دعيت للمشاركة في مؤتمر عن العلاقات العامة في إحدى الدول الخليجية وكان إن التقيت بأحد شعرائها الكبار ممن يجيدون نظم الشعر العربي بأوجهه المتعددة.. حييت إبداعه قبل أن يأخذنا الحديث عن الشعراء وما فعلته القنوات بالشعر الشعبي .. إلا أنه فز حزينا على ما يحدث .. مشددا وهو الشاعر الفصيح الذي يكتب شعره بكل أوجه الشعر.. على أن قامة الشعر الشعبي قد انحنت من فرط عبث بها .. وكان موقع الألم الأكبر في حديثه وهو يردد أسماء شعراء شعبيين كبار ويرى فيهم امتدادا للأسماء الشعرية الكبيرة عربيا ذكر ابن لعبون وابن سبيل .. وختم بأحمد الناصر الشايع أطال الله في عمره وغفر لسابقيه .. هو شدد على أن هذا الشاعر من قمم الشعر .. بل من أولئك الذين تقيس شعرهم على الشعبي وعلى اللغة العربية الفصحى بل استشهد ببعض أمثلة من بينها رائعة الشايع التي يقول في مطلعها : اقبل الليل واكتف النهار وعذاب العيون من طول السهر هو غمز إلى تكريم مثل هذا المبدع وكيف لا يتم تكريم من هو مثله. البردوني رحمه الله حقيقة فقد قادني حديث ذلك المبدع إلى التفكير بماهية التكريم التي يحتاجها مبدعونا وليكن الشايع مثالا.. ومن جهتي طفقت ابحث عن مثل ذلك لأكتشف وبكل أسف ان مثل ذلك نادر في مجتمعنا . والطامة أن مثل المبدع احمد الناصر الشايع قد كرم خارج وطنه "مع تأكيدي هنا بأنني لست من المتعمقين في هذا النوع من الأدب .... مجرد قارئ متذوق يلفت نظره كل ما هو جدير بالاطلاع والقراءة." .. ويكفي أن نشير إلى أن جريدة الرأي العام الكويتية هي من كرمه في نهاية القرن الميلادي الماضي كونه احد شعراء القرن كما أكدت الصحيفة.. حيث جمع بين الإبداع في الشعر الاجتماعي والتصويري والقصصي والغنائي .. وشعر القلطة "المراد" وقد جمع بينها بإتقان .. بل أن شعره يصنف كما للقاضي وابن سبيل .. أعود إلى ما بدأت به لأؤكد أن المرء لا يحتاج إلى بذل جهد كبير لكي يدرك أن تجاهل المهمين من أولئك المبدعين المفكرين وما يقابله من صعود بنجومية وتكريم لاعبي الكرة والفنانين فيه تعبير عن نتاج لثقافة مهتزة مختلة أخذت بالأقل للأعلى والاهم للأسفل .. وعليه فلا بأس أن تتراجع قيم فكرية كبيرة كما هو الإبداع في الشعر الشعبي والقصة والرواية والأدب عموما.. ولا بأس ان تجاهلنا مفكرينا وشعرائنا المبدعين ليتراجع الإبداع و ان نرى غثاء وتلاسنا أشبه بالزعيق منه إلى الشعر أما المبدعون فنترك غيرنا يكرمهم . سعاد الصباح تقول الشاعرة الكويتية الكبيرة سعاد الصباح: "كلما تقدم العمر بالمبدع، عادت إليه طفولته. هكذا أرى. لذلك فالمبدع شديد التأثر بمبادرة التكريم التي تهدى إليه، كما في الإطار الجميل الذي سبقنا إليه. أنا لا أقدم للمبدع مالاً ولكنني أهديه ما هو أغلى: الشكر عرفانًا بما أعطى، وهو المستحق له خاصة في مجتمعاتنا التي لم تتعود أن توجه الشكر للمبدع. وردات فعل المبدعين الذين كان لي شرف تكريمهم ترقى إلى سوية الخيال وأحسب أنني بهذا التقليد قد زرعت بذرة وفاء". انتهى كلام شاعرتنا لأشير إلى أننا لسنا مضطرين او محتاجين في هذه العجالة لتفسير الخلل الجاثم على صدر المبدعين السعوديين .. فهل نحن إزاء انفتاح مشوه أم أننا في إطار أزمة تقدير لبعضنا .. أنا اتساءل فقط.. وكأننا ننسى وعن عمد ما يجب أن نفعله .. ويوما ما لا مفر من الاعتراف بأننا فشلنا في احتواء مبدعينا و فشلنا أيضا في تقديرهم و فشلنا في تكريمهم .. مع أن الأمثلة قائمة بجانبنا في الخليج والعالم العربي فهم باتوا يتسابقون على تكريم مبدعيهم.. أما نحن فليس لنا إلا ان ننتظر وفاتهم لكي ندعو بعض الكتاب لتأبينهم ..و الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني رحمه الله قال "الشعراء لا يموتون وإنما تتغير صور استقبالنا لهم .. فالعظيم لا يموت ".. أما لدينا فندفنه حياّ. أقول في خضم المطالبة بتكريم الشاعر الكبير احمد الشايع إن هذا التكريم مطلوب لرجل استطاع أن يجعل من الشعر عنوانا للحب والتآخي على مدى سبعين عاما فقد أبدع بعطاءاته الفكرية والشعرية لفائدة المجتمع السعودي والخليجي، فهو يُعد من أكبر الشعراء الشعبيين الذين ساهموا في إثراء هذا الميدان. والشاعر بحاجة دائمًا إلى لمسة وجرعة حنان، بحاجة إلى التقدير على ما صدح به .. عبر احتفالية او لقاء تكتظ بالحب والدفء الإنساني. إننا بحاجة ماسة لإحياء فضيلة التكريم والتقدير لكل مبدع ومتألق بعيدا عن الطوبائية المترددة في أذهاننا.. فكم نحن بحاجة لإشاعة تلك الجوانب المضيئة في حياتنا الاجتماعية من تلك التي تدل على رحابتنا وحبنا لبعضنا وتمسكنا بأصحاب القيمة لنسير على الهدف. ولأن التكريم شديد معنويا.. على من يصيبه إلا أننا كثيرا ما ننصرف بشدة عن جوهر الحقيقة المنشودة من تكريم مبدعينا، ورواد المعرفة وفنونها المختلفة ، ومن ثم يقف بنا الأمر عند حدود الشكل والمظهر لا نتجاوزه إلا في بعض التظاهرات الاحتفالية، وتبقى بعد ذلك ذكرى هذا المبدع وآثاره رهينة الكتب لا يهتدي إليها إلا من كان في حاجة ملحة لها، أو من راغبي البحث والمعرفة، وهم في زماننا قليلون جدا. قبل ان اختم نسيت ان احمد الناصر الشايع ، اعترف بقيمته العالية من هو في شرق الجزيرة وغربها فما نظمه احمد الناصر لم يكن على هامش الحركة الابداعية.. بل في قلبها ، فهو ذو تركيز كبير وعفوية لغوية متألقة ، بل هو صاحب شأن تجديدي وكأن كل قصيدة جديدة له ذات مذهب وشأن مختلف عن ما سبقها . ومن جهتي أؤكد كما غيري ان الشعر الشعبي ليس قضية سهلة الانجاز بل عمل إبداعي ذو خصوصية معينة وكثير ممن يسمون بالشعراء الشعبيين يعتقدون ان العملية ضرب من الكلمات ومن ثم يترأى لهم أن ما كتبوه جيد ....لكن سرعان ما تتكشف المعاني والقوافي . وحقيقة فزمننا هذا يعاني من ضعف الطرح وبلادة المضمون ، وسط تسابق غريب مريب الكل يبحث عن الشهرة بواسطته و بما جعل الشعر كالسلعة التي بخس ثمنها. وأعود لأحمد الناصر ومن رأي القريبين المطلعين للشعر الشعبي فهو لم يربط شعره بالقيمة المادية، بل كان كريم اللفظ سخي الشعر ، صور الحكمة في شعره فأجاد، وتغزل ولم يبتذل ،لم يلجأ لإسقاطات الكلام ، ولم ينجر إلى اسفافات التنازع. في شعر احمد الناصر تسود العواطف النبيلة الجياشة على كل ما عداها وتتجلى مشاعر الإنسان المحب لكل ما حوله. لم يقف او يتراجع وسط الركام المتراجع من السيل الكبير للشعراء ،هو ورغم سنينه الثمانين "أمد الله في صحته وعمره"مازال يقدم الإبداع ويصوغه ،ويرسم الحكمة ويجسدها بمعان لم يكن يغضبه ان يستنسخها كثيرون منه، لان هدفه إيصالها للناس . وبعد إذا كان لي ان أجيب عن ما الذي ينقصنا تجاه كبارنا من مبدعين ومفكرين ومؤثرين أقول الهمة .. الهمة بالتقدير والتكريم إنها الشرط الرئيس لاستمرار الإبداع.