قبل فترة بسيطة كتبت مقالا بعنوان "لا تصدقوا أكاذيب التراث" تعرضت فيه لشهادة المؤرخ وهب بن منبه عن وجود عمالقة يقتلعون الأشجار ويزيحون الجبال ويخوضون البحار ويتجاوزون المدن ب"فردة قدم" .. فقد تحدث مثلا عن عملاق يدعى عوج بن عنق قال إنه "لا يوصف من طوله يخوض البحر ولا يبلغ ركبتيه ويجتاز المدينة كما يجتاز أحدنا الجدول الصغير، وقد مد الله في عمره حتى أدرك موسى عليه السلام"!! ... كما جاء في كتاب تحفة الألباب لمؤلفه الشيخ عبد الله : دخلت قبور عاد فوجدت سن أحدهم طوله أربعة أشبار، كلوح الرخام ... وقال أيضا : رأيت في بلاد البلغار رجلا طويلا من نسل عاد طوله أكثر من سبع وعشرين ذراعا يسمى دبقي يأخذ الفرس تحت إبطه ويحمل في يده شجرة البلوط كالعصا، وكان إذا لقيني يرحب بي وكان رأسي لا يصل إلى ركبته .. وكانت له أخت في مثل طوله قتلت زوجها بعد أن ضمته إلى صدرها فكسرت أضلاعه فمات من فوره....... على أي حال .. دعونا نكتفي بهذا القدر، فأنا -شخصيا- لا أصدق أخباراً كهذه واعتبرها من مبالغات التراث وقصص الأساطير . وهي أخبار ملفقة في مجملها تجد شبيها لها في الأساطير اليونانية والهندية والصينية واليابانية... وما يشغلني بالفعل ليس الأساطير ذاتها بل اشتراك الأمم كافة والشعوب في الحديث عن أناس عمالقة يتمتعون بطول كبير وأجسام ضخمة لم تثبتها الأحافير العظمية أو الأسفار الطبية ولا حتى وجود أحد من نسلهم هذه الأيام.. ومن المعلوم أن الأحافير والبقايا العظمية المتحجرة هي الوسيلة الوحيدة للتأكد من وجود المخلوقات القديمة . فحيوانات عملاقة مثل الكادسورس والأباتوسورس والبراتشيوسورس (وجميعها من الديناصورات التي يتجاوز طولها عمارة من خمسة طوابق) عرفنا بوجودها من خلال الحفريات وبقايا العظام في حين لم يتم اكتشاف أي هياكل بشرية تتمتع بطول استثنائي في أي منطقة من العالم .. وحلقة مفقودة كهذه أفرزت عمليات احتيال كثيرة قصد منها إثبات وجود العمالقة الذين ورد ذكرهم في الروايات الدينية والكتب المقدسة .. فقد جاء في الإنجيل مثلا (نسخة الملك جيمس) أن العمالقة حكموا الأرض قبل البشر ولكنهم أبيدوا بسبب معاصيهم الكثيرة .. وحدث في عام 1869 أن اختلف مثقف ملحد (يدعى جورج هيل) مع قس معروف من نيويورك حول وجود العمالقة . ونتيجة لهذا قرر جورج هيل إثبات خطأ المتدينين بطريقة عملية فصنع تمثالا لرجل متحجر يتجاوز طوله 12 قدماً، ودفنه في منطقة إنشاءات في ضاحية كارديف.. وبعد سنة كاملة اكتشف العمال التمثال المدفون فانتشرت الأخبار باكتشاف أحد عمالقة الإنجيل . ورغم أنه كان منحوتا من الحجر الصلب إلا أن عامة الناس اقتنعت (بعكس ما أراد هيل) بأنه نموذج لشعوب عملاقة عاشت قبل التاريخ .. وحين وصلت شهرته للولايات الأخرى ظهرت تماثيل مشابهة عزفت على الرواية الإنجيلية بغرض الربح والكسب (لدرجة أن التمثال الأول مايزال يعرض في متحف Cooperstown في نيويورك) !!! ... وبالعودة لسياق الموضوع أشير إلى أنه لم يحدث في أي زمان أو مكان أن أُكتشف دليل مادي على وجود بشر يتجاوز طولهم المترين ونصف (وأقصى طول معروف في عصرنا الحاضر يملكه الصيني باو أكسشيون الذي يتجاوز طوله مترين وست وثلاثين سنتمتر فقط) .. أما أساطير الشعوب وخدع العمالقة والقصص التي بدأنا بها المقال، فلا تثبت غير تعلقنا بمسألة الطول ورغبتنا الدفينة في الارتفاع فوق الآخرين خصوصا أن استطلاعات الرأي أشارت إلى أن واحدا من كل أربعة رجال يتمنى لو كان أكثر طولا ... بصرف النظر عن طوله الحالي !!