مع بداية كل فصل دراسي أواجه من طلابي السؤال القديم الجديد: «يا دكتور.. لماذا ندرس التاريخ؟» والطلاب هنا نوعان: هناك من جاء للتخصص عن قناعة وهم مدركون قيمة التخصص، والنوع الثاني من قادته عوامل خارجية عن إرادته وأهمها المعدل وعدم تمكنه من الالتحاق بتخصصات أخرى للتوجه إلى قسم التاريخ. والغريب أنه مع كل هذا الوعي بأهمية علم التاريخ ودراسته إلا أن بعض الطلاب لا يزال غير مقتنع. تشكل دراسة التاريخ أساسًا راسخًا في بناء الوعي الإنساني والحضاري، وهي ليست مجرد سرد لأحداث مضت أو شخصيات رحلت، بل هو علم يتجاوز الزمن ليمنح الأجيال قدرة على فهم حاضرهم واستشراف مستقبلهم. إن الجيل الجديد، بما يحمله من طموح وتحديات في عالم سريع التغيير هو الأحوج إلى تخصص التاريخ من غيره، لأنه المرآة التي يرى فيها جذوره وهويته وانتماءه، فيتعلم مما مضى ليصنع ما سيأتي. التاريخ هو الذاكرة الجمعية، وبدونه يصبح الإنسان كمن يعيش بلا جذور. فحين يدرك الفرد كيف نشأت دولته، وكيف تطورت حضارتها، وما حققه أجداده من إنجازات وما مروا به من محن، تتعمق لديه مشاعر الفخر الوطني والانتماء. هذه المعرفة تولد في داخله مسؤولية تجاه وطنه، وتدفعه إلى المشاركة في بنائه والمحافظة على مكتسباته. فالأمم التي تتجاهل تاريخها معرضة لتكرار الأخطاء نفسها، أما التي تعيه جيدًا فإنها توظفه لتقوية حاضرها وتطوير مستقبلها. كذلك تُعد دراسة التاريخ مدخلًا مهمًا لتنمية التفكير النقدي لدى الشباب. فقراءة الأحداث التاريخية وتحليل أسبابها ونتائجها يقود العقل إلى البحث والمقارنة والاستنتاج. وهنا يتعلم الجيل أن الوقائع ليست منفصلة، بل هي سلسلة مترابطة تقود إلى مصائر مختلفة. كما يكتسب الطالب من دراسة التاريخ خبرة إنسانية واسعة دون أن يعيش التجربة بنفسه.. فهو يتعرف على نماذج قيادية عظيمة مثل الخلفاء والعلماء والمصلحين، ويتعلم من استراتيجيات الحروب والسياسة والاقتصاد، كما يدرك أثر العلم والمعرفة في نهضة الأمم. وفي المقابل، يتعرف على أسباب الانهيار من تشرذم وصراعات داخلية وضعف في القيم.. هذه الدروس المختصرة تختصر أعوامًا طويلة من التجربة البشرية، فتمنح الجيل الجديد فرصة للالتفاف حول قيادتهم الرشيدة وتجنب الأخطاء وتطوير رؤى أكثر نضجًا. ولا يمكن إغفال القيمة الحضارية لدراسة التاريخ في زمن العولمة السريعة، حيث تتعرض الهويات للذوبان تحت ضغط الثقافات المتعددة. فمعرفة التراث والتاريخ تبني الحصانة الثقافية وتحافظ على اللغة والعادات والتقاليد، وتُشعر الشباب أن لهم مكانًا بين الأمم. كما تفتح لهم الأفق للتواصل الحضاري الواعي مع العالم، مبنيًا على معرفة بالذات قبل الآخر. أخيرًا، إن التاريخ ليس مجرد ماضٍ يُقرأ، بل هو مستقبل يُبنى.. فالجيل الجديد حين يدرك قيمة ما ورثه من حضارة ومجد، وحين يتعلم من الدروس التي خلفتها التجارب البشرية، يصبح قادرًا على صناعة حاضر أفضل، وتطوير رؤية نهضوية تستند إلى المعرفة والخبرة.. إن الاستثمار في تعليم التاريخ وتقديمه بأساليب حديثة –تفاعلية، تحليلية، مرتبطة بالواقع– سيكون ركيزة في إعداد جيل مثقف، واعٍ، قادر على حمل رسالة الوطن بثقة وعزم.