حماية القيم وضبط ميزان العدالة مشروعات الفضاء.. رمز وطني للأجيال القادمة منصات للطموح والإبداع والاندماج العالمي لطالما حملت أراضي المملكة العربية السعودية قامات من الرموز الوطنية، التي ترعرعت في حكمها وتحت رايتها، بعيدا عن كونها مملكة ذات قوة ونفوذ وسلطة عالية، هي منبع لرموز عدة، لا تنحصر بالشعارات والصور، بل هي تحتضن لغة الهوية التي تجسد ذاكرة الدولة وقيمها وتاريخها وموقعها في العالم، الرموز التي تحمل معاني تتجاوز حدود الشكل، رموز عززت الوحدة، واوعية للذاكرة الجماعية، ومنصات للتأثير السياسي والثقافي، تحت كنف هذه المملكة العظيمة، ومنذ توحيدها وتأسيسها، نمت مع مرور اجيالها رموز جسدت قيم وطنهم في وجدانهم، منها رموز قد انتهت في ذاك الآن، ومنها من استمرت ليومنا بتجدد اكبر يتماشى مع وقتها، ومنها رموز طرأت في وقتنا الحالي لأجيال جديدة تعتز بأرضها أكثر مما كانت عليه. من السيف في علمها، والعربية في نطقها، والتاريخ الذي شكلها، إلى الفضاء الذي يحاكي طموحاتها، هنا المملكة العربية السعودية، تسير بخطاها نحو التمكين، برموز ماضيها وصناعتها لرموز المستقبل، تترجم هويتها بين أصالة الجذور واتساع الأفق. في يومها الوطني، لا تحتفل بالرموز القديمة فقط، بل تمهد لولادة رموز جديدة. قراءة للرموز الوطنية وفي هذا السياق يؤكد هاني الغفيلي المتحدث الرسمي لوزارة الإعلام سابقا، أن الرموز الوطنية ليست مجرد رسم على علم أو شعار في مناسبة، بل هي خطاب صامت يصل إلى الآخر دون وسيط، ففي الدبلوماسية الناعمة، هذه الرموز تصبح لغة مشتركة، تقرأ وتفسر من الخارج كعلامة على هوية الدولة ورسالتها. مثلا، عندما يظهر شعار المملكة في المحافل الدولية، فإنه لا يختصر فقط اسم "السعودية"، بل يقدم رسالة عن عمقها الحضاري وثقلها السياسي، فالرموز هنا أشبه ببطاقة تعريف دائمة ترافقنا، وتبني صورة ذهنية إيجابية عن الدولة، دون أن نحتاج إلى خطاب مطول أو دفاعات متكررة. وعن قراءة السيف بالشعار الوطني من منظور فلسفي سياسي يضيف؛ السيف ليس مجرد أداة حرب، بل رمز للقوة المنضبطة بالعدل، ففي الفلسفة السياسية السعودية، القوة لا تستخدم للبطش، بل لحماية القيم وضبط ميزان العدالة. السيف في شعارنا يعكس هذا المعنى، بأنه لا عدالة بلا قوة، ولا قوة بلا عدالة، وأنه تجسيد لفكرة التوازن التي قامت عليها الدولة منذ تأسيسها، حيث لم يكن الهدف فرض السيطرة، بل إقامة دولة عادلة تطبق الشريعة وتحمي المجتمع؛ بمعنى آخر، السيف ليس تهديدا، بل ضمانة لعدالة مستمرة. إن الرموز الوطنية يمكن أن تقرأ ك "دستور صامت"، فهي تلخص في صورة واحدة ما يحتاج المشرع والكاتب إلى صفحات لشرحه، فالنخلة والسيف مثلا يجسدان في بساطتهما فلسفة الدولة "رخاء مستدام، وعدل محمي بالقوة"، هذا يجعل الرموز أكثر من مجرد شكل جمالي؛ هي مرجع قيمي وفكري يذكر المواطن دائما بالأساس الذي قامت عليه الدولة. وبالمعنى الفلسفي، الرموز تحفظ هوية الدولة مثلما تحفظ النصوص القانونية حقوقها. وفي تفسير بقاء الرموز التقليدية (كالسيف) في مجتمع يتجه نحو الحداثة، يجيب؛ يمكن أن نعتبره الأمرين معا استمرارية فلسفية وتجذير للهوية، فالحداثة لا تعني محو الجذور، بل البناء عليها. بقاء السيف في شعارنا الوطني يعكس فكرة أن العمل والتطور لا تنفي قيم القوة والعدل، بل تعيد صياغتها بلغة العصر، فنحن نمضي نحو الذكاء الاصطناعي والفضاء والطاقة المتجددة، لكننا لا نغفل أن هويتنا متجذرة في رموز لها عميق تاريخي وفلسفي. السيف هنا ليس (حنين للماضي)، بل هو تذكير مستمر بأن كل تقدم يجب أن يحاط بعدالة وقوة ومتانة. مرآة تعكس ظروف كل عصر وفي رحلة الرموز الوطنية عبر التاريخ، يضيف سعد العريفي - دكتوراة في التاريخ الحديث، باحث متخصص في تاريخ وتراث المملكة - قائلا؛ لعبت الرموز الوطنية السعودية دورا تأسيسيا في صياغة الهوية وتعزيز الانتماء. فمنذ قيام الدولة السعودية الأولى 1139ه / 1727م، كانت الراية الخضراء التي تحمل شهادة التوحيد رمزا جامعا يختصر فكرة الوحدة بعد الشتات. لم يكن الرمز مجرد علامة بصرية، بل كان تجسيدا لمعنى الشرعية الدينية والسياسية، ودعوة صريحة للاجتماع تحت لواء واحد. وقد تعمقت هذه الدلالات مع توالي الاحداث التاريخية، فبعد ضم الرياض على يد الملك المؤسس عبدالعزيز ال سعو 1319ه / 1902م، أصبحت الراية أداة لبناء الشعور الجمعي، اذ ارتبطت بذكريات الانتصارات والمعارك التي وحدت البلاد، وتحولت الى رمز للقوة والامن والاستقرار. ومع تتالي الأجيال، استمرت الرموز الوطنية في أداء دورها التوحيدي، لكن ابعادها توسعت لتشمل قيم المواطنة والتنمية والاعتزاز بالتراث. وهكذا، فإن الرموز لم تتوقف عند مرحلة التأسيس، بل عبرت الزمن لتبقى مكونا أساسيا من الوعي الوطني، يجمع الماضي بالحاضر، ويعزز وحدة المجتمع عبر الأجيال المختلفة. يتغير معنى الرمز الوطني مع تغير الظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها كل جيل. فجيل التأسيس، الذي عاش وقع الصراعات القبلية وبساطة الحياة الاقتصادية المعتمدة على الرعي والزراعة والموارد البدائية للتجارة رأى في الراية والسيف رموزا للقوة والشرعية والانتماء، وضمانة للأمن والاستقرار بعد زمن طويل من التفرق. ومع إعلان الدولة الحديثة وبدء مؤسساتها بالتشكل، تحول الرمز ليعني المواطنة الجامعة والولاء للدولة. في السبعينيات الميلادية، حين فتحت الطفرة النفطية أبوابها أمام التحول العمراني والتعليمي الضخم في المملكة، ارتبط الرمز بمعاني التنمية والازدهار، وغدا المواطن يرى في العلم والنشيد الوطني والشعار (السيفين والنخلة) علامات على المكانة الدولية الجديدة للمملكة. أما في مرحلة التحديات السياسية والأمنية مع نهاية القرن العشرين، أضحى الرمز الوطني جدارا صلبا يحمي الهوية الوطنية من فوضى العولمة ويعزز قيم الثبات والوحدة. واليوم، مع رؤية 2030 وما صاحبها من مشاريع اقتصادية وتكنولوجية ضخمة، يعاد تعريف الرموز الوطنية لتصبح منصات للطموح والابداع والاندماج العالمي بأصول راسخة في أعماق المواطن السعودي. هذا التحول يؤكد أن الرموز الوطنية ليست كيانا جامدا، بل مرآة تعكس ظروف كل عصر وتعيد صياغة دلالاتها وفق حاجات المجتمع. ويؤكد العريفي؛ لم تفقد الرموز الوطنية القديمة تأثيرها على الأجيال الجديدة، فهي مازالت حاضرة بقوة، لكن حضورها لم يعد بنفس المعنى الذي كان قائما في مرحلة التأسيس. ارتبطت رموز جيل البدايات بالراية والسيف والبيعة، حيث كان معنى الرمز قائما على الأمن بعد الفوضى والوحدة بعد الشتات. أما جيل ما بعد النفط، فقد توسعت دائرته الرمزية لتشمل النشيد الوطني والشعار الرسمي والاحتفالات بالأيام الوطنية والمشاريع التنموية الكبرى، فصار معنى الرمز أكثر التصاقا بالازدهار الاقتصادي والمكانة الدولية. تغير وعي المواطن مع عصر الطفرة النفطية، فجعلت من العلم والنشيد علامات على التقدم والبنية التحتية والتعليم الحديث. كما برزت أشكال جديدة من التفاعل مع الرموز مع دخول العصر الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، إذ لم تعد مقتصرة على المناسبات الرسمية، بل أصبحت جزءا من الحياة اليومية واستخدامها في الفضاء الرقمي للتعبير عن الفخر والانتماء في ميادين الرياضة والثقافة والإعلام. إذن، الرموز القديمة لم تفقد قيمتها، لكن أعيد تفسيرها من جيل إلى آخر؛ فبينما مثلت القوة والوحدة في الماضي، أصبحت اليوم تحمل معاني الطموح العالمي والانفتاح على المستقبل، في انسجام مع التحولات الاقتصادية والتقنية الكبرى التي عرفها المجتمع السعودي. إن التعليم والثقافة والموروث الشعبي ركائز أساسية في نقل الرموز الوطنية وضمان استمرار قيمتها الرمزية عبر الأجيال. فمن خلال التعليم، يتعرف الطلاب على سيرة التأسيس ومعاني العلم والشعار والنشيد الوطني، ويتعلمون ان هذه الرموز ليست مجرد صور او كلمات، بل هي خلاصة لتاريخ طويل وتجارب عميقة. وتترسخ هذه القيم اكثر عبر الأنشطة المدرسية والاحتفالات الوطنية التي تحول الرمز من معلومة الى تجربة وجدانية يعيشها الجيل الجديد. اما الثقافة، فهي التي تمنح الرموز حياة متجددة، اذ يعاد انتاجها في الادب والشعر والفنون البصرية والسينما والمسرح، لتصبح قادرة على التعبير عن روح العصر. كما تضطلع وسائل الاعلام التقليدية والحديثة بدور جوهري في تعزيز حضور الرموز، من خلال تسليط الضوء عليها في المناسبات الوطنية وابرازها كعناوين للفخر الجماعي. اما الموروث الشعبي، فهو الذاكرة الحية التي تربط الرموز بجذورها، عبر الحكايات والامثال والاهازيج التي تنقل بطولات التوحيد وترفع من شأن الراية والنشيد. هذا التكامل بين التعليم والثقافة والموروث يجعل الرموز الوطنية كيانا حيا يتجدد مع كل جيل، ويحافظ على قيمته الرمزية بوصفه رابطا يجمع الماضي بالحاصر والمستقبل. وفي القول ان الرموز الحديثة، مثل الابتكار والتكنولوجيا والفضاء تعتبر امتدادا طبيعيا للرموز التقليدية ام تمثل مرحلة جديدة كليا في الهوية الوطنية يجيب العريفي؛ الصورة اكثر تركيبا، فمن جهة، يمكن القول انها امتدادا طبيعي، لان العلم والنشيد والشعار الوطني تحمل قيم التوحيد والقوة والازدهار، وهذه القيم نفسها تعبر عنها مشاريع الفضاء والذكاء الاصطناعي والمدن الذكية، ولكن بلغة جديدة تناسب العصر. فعندما ترسل المملكة روادا للفضاء او تبني مشاريع كبرى مثل نيوم او ذا لاين، فإنها تقدم للعالم رموزا عصرية تعكس حضورها الدولي، لكنها في الجوهر استمرار لروح التأسيس القائمة على الطموح والوحدة والريادة. من جهة أخرى، لا يمكن انكار ان هذه الرموز الحديثة تمثل مرحلة جديدة كليا، لأنها تعكس هوية سعودية عالمية الطموح، تنفتح على الفضاء وتنافس في الابتكار والتقنية، وهي رموز لم يعرفها جيل التأسيس او حتى جيل الطفرة النفطية. والانسب ان نعتبرها مرحلة تراكمية، حيث تضيف الرموز الحديثة بعدا مستقبليا للهوية دون ان تلغي جذورها. بهذا المعنى، يظل العلم والنشيد الى جانب ريادة الفضاء والمشاريع التقنية الكبرى مشهدا متكاملا يعكس هوية وطن متجذر في اصالته ومتجدد في رؤيته للعالم. مشروعات الفضاء.. رمز وطني للأجيال القادمة ووصف حسام العسيري -مهندس صناعي مهتم بعلوم الفضاء-، أؤمن بأن مشاريع الفضاء والذكاء الاصطناعي يمكن أن تتحول الى رموز وطنية للأجيال القادمة، لأنها تعكس طموح المملكة في ريادة المستقبل، وتبرهن على أن هويتنا الوطنية لا تقتصر على الماضي المجيد فقط، بل تمتد لتشمل الحاضر والمستقبل، فكما كان سيف المؤسس ورمز التوحيد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن ال سعود -طيب الله ثراه- معبرا عن مرحلة البناء والتأسيس، فإن الفضاء والتقنية والذكاء الاصطناعي ستصبح رموزا تعبر عن مرحلة الريادة العالمية والابتكار. تتجذر الرموز الجديدة في الهوية الوطنية حين تترجم الى إنجازات ملموسة يلمسها المواطن في حياته اليومية، فعندما يرى شبابنا الأقمار الصناعية السعودية، او التطبيقات المبنية على الذكاء الاصطناعي التي تسهل حياتهم على سبيل المثال لا الحصر برنامج "هيوماين" الذي تم تدشينه في احد الأسابيع الماضية وخرائط هدهد، يدركون ان هذه ليست مشاريع عابرة، بل جزء من صورة وطنهم، لذلك يجب ان ندرك الرموز التقنية والفضائية تصبح جزءا من الهوية حين ترتبط بالفخر والاعتزاز، وحين تتحول الى قصة نجاح نحكيها للأجيال القادمة. ويضيف؛ العوامل التي تجعل الإنجازات الفضائية والتقنية رموزا وطنية قوية هي؛ وضوح الأهداف، ارتباطها برؤية وطنية، مشاركة الكفاءات السعودية فيها، وأخيرا اثرها المباشر في حياة الانسان، وحين نرى أبناء وبنات الوطن في قلب هذه المشاريع، يتحول الإنجاز من مجرد رقم او مشروع الى رمز وطني خالد. وقد جسد سمو سيدي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله- هذه العوامل في رؤيته، حيث وضع الكوادر الوطنية في قلب المشاريع الكبرى، لذلك بلا شك يمكن لهذه الإنجازات ان تصبح جزءا من التراث الوطني المستقبلي، لأنها تمثل مرحلة التحول الكبرى التي قادها سموه بكل اقتدار ويمكن لهذه الإنجازات ان تصبح جزءا من التراث الوطني المستقبلي، لأنها تمثل مرحلة مفصلية في تاريخ المملكة، حيث انتقلنا من الاعتماد الى الريادة، ومن المستهلك الى المنتج. الرموز الوطنية الحديثة تعكس رؤية السعودية 2030 من خلال ايمانها العميق بالابتكار والتكنولوجيا كمسار أساسي للتقدم، بينما ارتبطت الرموز التقليدية لجيل التأسيس بالبطولة والتوحيد وبناء الدولة، فإن رموزنا الحديثة ترتبط بالإبداع والقدرة على صناعة المستقبل وهي امتداد لذلك الإرث العظيم، لكنها تحمل رسالة جديدة للعالم: ان المملكة اليوم لا تكتفي بالماضي المجيد، بل تبني حاضرا متقدما ومستقبلا أكثر إشراقا ليس إلا. إن الإنجازات الفضائية تعزز صورة المملكة عالميا كرمز متجدد للهوية الوطنية والابتكار، لأنها تنقل رسالة واضحة مفادها ان المملكة العربية السعودية ليست مجرد دولة نفطية، بل دولة تمتلك طموحا علميا وحضاريا، وعندما ترفع المملكة رايتها في الفضاء، فهي ترفع معها اسم الوطن في مصاف الدول الرائدة، وتؤكد ان رؤيتها ليست محلية فقط، بل كونية في افقها وتأثيرها. ويختتم العسيري قائلا؛ الرموز الوطنية الجديدة التي نعيشها اليوم ليست بديلا عن الرموز التقليدية التي قام عليها التأسيس، بل امتداد طبيعي لها، تحمل روح الماضي المجيد وتضيف اليه بعد الحاضر المزدهر ووعد المستقبل المشرق، وما يميز هذه المرحلة انها تحمل بصمة سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله-، الذي جمع بين ارث الآباء المؤسسين وروح الابتكار، ليجعل من الهوية السعودية مشروعا حيا ومتجددا، فالماضي هو جذر الفخر، والحاضر هو تجسيد الطموح، والمستقبل هو وعد صادق لأجيالنا بأن تبقى المملكة في موقع الريادة دائما، تحت قيادة قائد استثنائي يؤمن ان طموح السعوديين عنان السماء. لغة الضاد.. هوية المملكة ورمزها الخالد ومن جهة أخرى يؤكد الكاتب سليمان الرسلاني -أخصائي لغة عربية متمرس- قائلا؛ إن العربية تحديدا، من اللغات التي تتجاوز كونها أداة للتواصل بين مجموعة من الناس؛ فهي من اللغات النادرة التي ما تزال مستخدمة لأداء الشعائر الدينية وفي الوقت ذاته يتحدث بها الناس للتعبير عن اغراضهم اليومية، وهي تمتلك رابطا تاريخيا يوصل من يتحدث بها اليوم الى اقدم النصوص التي وصلتنا من التراث، بحيث لا يجد غير المختص صعوبة في فهم سياق قصيدة كتبت قبل ستة عشر قرنا، فما الصعب في قول المثقب العبدي : "افاطم قبل بينك متعيني ومنعك ما اردت كأن تبيني ولا تعدي مواعد كاذبات تمر بها رياح الصيف دوني". فإذا وضحت بأن البين يعني البعد سيفهم البيت مباشرة ويتذوقه بكل وضوح، هذا الرابط التاريخي من ابرز نقاط قوة اللغة العربية، واستشعار قيمته يعزز من فخر العربي وانتمائه للغته العظيمة، ويعمق ارتباطه بالأرض التي احتضنت هذه اللغة ونزلت اخر الرسالات السماوية عليها ناطقة بلغتها. وارتباط السعوديون بلغتهم وثيق كارتباطهم بأرضهم وارض اجدادهم؛ فهذه اللغة أيضا تحدث بها اجدادهم ومن قبلهم، احبوا، فكتبوا قصائد النسيب فيها، وهاجروا، فكتبوا قصائد الشوق الى ديارهم بحروفها، كقول ابن الدمينة : "الا يا صبا نجد متى هجت من نجد لقد زادني مسراك وجدا على وجد". وانطلاقا من ايمان راسخ بارتباط اللغة بالهوية الوطنية جاء الامر الملكي في المادة الأولى من النظام الأساسي للحكم ناصا على ان "المملكة العربية السعودية، دولة عربية إسلامية، ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولغتها هي اللغة العربية، وعاصمتها مدينة الرياض". وفي حماية اللغة كجزء من حماية الهوية وكيفية الحفاظ عليها في زمن العولمة والتقنية يعلق الرسلاني قائلا؛ ان المميز بالعربية ان قواعدها واضحة رغم كثرتها، فنحن نمتلك 28 حرفا يمكن للمبرمج التقني المختص رقمنتها وتعريفها في جميع المنصات الرقمية بسهولة، بخلاف لغات أخرى تعاني من رموز معقدة او أنظمة كتابية متفرعة. لكن التحدي الحقيقي لا يكمن في الرقمنة وحدها، بل في ترسيخ حضور العربية في فضاء التقنية والاتصال. ولا يكون ذلك الا بوعي تام بضرورة توظيف اللغة العربية في مناهج التعليم الخاصة بعلوم الحاسب، وتعزيز المحتوى العربي بمختلف اشكاله على الشبكة، مما يغذي بعد ذلك نماذج الذكاء الاصطناعي للاستفادة منه. كما عززت نماذج الذكاء الاصطناعي حضور العربية في الفضاء الرقمي وحسنت أدوات معالجتها. ومن خلال تجربتي الشخصية لعدة نماذج، لاحظت تطورا في دقة النتائج وجودة المخرجات، فبعدما كانت الأخطاء كثيرة في بدايات ظهور هذه النماذج، باتت اليوم اكثر اتساقا ودقة. هذا التطور يعكس تراكم البيانات العربية وازدياد عدد المستخدمين، مما عزز قدرات تقنيات التعلم الالي في فهم اللغة ومعالجتها. وبذلك اصبح الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة مساعدة، بل رافدا مهما لترسيخ العربية في مجالات التقنية والمعرفة. ونحن اليوم نتطلع بشوق لأول نموذج للذكاء الاصطناعي عربي الأصل والمنشأ (علام) من الشركة السعودية "هيوماين"، المبني على اللغة العربية من جوهره وليس مترجما كالنماذج المتاحة حاليا، مما يتيح له فهم مختلف اللهجات العربية والمناطقية والابعاد الثقافية الخاصة بها. كما يضيف الرسلاني قائلا؛ اسهم تعليم العربية للناطقين بغيرها في خلق صورة شاعرية للغة، اذ يجدونها معبرة اكثر من لغاتهم أحيانا ويذهلون من سحر المجاز فيها. ولم يقتصر هذا التأثير على الجهود الاكاديمية فحسب، بل كان للإنتاج الموسيقي واختلاط الشعوب بالعرب دور كبير في ترسيخه. ومن الطريف ان اول كلمة تواجهنا في الخارج عند معرفة الطرف الاخر اننا من السعودية هي كلمة "حبيبي"، وهي كلمة تختزل معاني الود وتفرض على الشعوب الأخرى محبة اهل هذه اللغة. وهذا البعد اللغوي يسهم في رسم صورة إنسانية للمملكة، شعبا وثقافة، باعتبارها بلدا منفتحا ومحبا للأخر، ويشجع الاخرين على زيارتها والتعرف الى مجتمعها عن قرب. اما عن مساهمات المملكة في المبادرات التي تعزز حضور اللغة العربية عالميا يؤكد الرسلاني قائلا ؛ تحتضن المملكة عددا من اعرق الجامعات ومراكز الأبحاث ودور النشر العربية، وتملك ارشيفا ضخما من المخطوطات القديمة. واضافة لهذا الإرث العريق، تعمل المملكة على تعزيز دور العربية في عصرنا الحالي بتنظيم المؤتمرات المختصة، كما تسهم الاحداث الرياضية والثقافية التي تقام على ارضها في دعم اللغة بشكل غير مباشر، اذ يتوافد اليها الزوار من مختف انحاء العالم، فيتعرفون على الثقافة المحلية ويخالطون المجتمع، الامر الذي يعزز من حضور العربية ويكرس مكانتها عالميا. وبالحديث عن اعتبار العربية وسيلة من وسائل الدبلوماسية الثقافية يقول؛ تقاس القوة الدبلوماسية بناء على عوامل عدة، منها اللغة، والعربية تملك قوة ناعمة؛ لكونها احدى اكثر اللغات المستخدمة في العالم، وتحمل بعدا دينيا وثقافيا مهما، وهي احدى اللغات المعتمدة في الأممالمتحدة. ومن هذا المنطلق، يمكن النظر اليها كأداة من أدوات الدبلوماسية الثقافية التي تسهم في تعزيز حضور الدول العربية، والمملكة العربية السعودية خاصة، على الساحة الدولية. ويجدر بنا استخدامها كوسيلة للتأثير الإيجابي في الرأي العام العالمي. الشعر.. نخلة الثقافة وتحدث الشاعر والأديب محمد جبر الحربي قائلاً؛ تطرح مثل هذه المحاور والأسئلة وغيرها عبر وسائل الإعلام المختلفة، مع قدوم المناسبات الوطنية، كاليوم الوطني، ويوم التأسيس، ويوم العلم، وذكرى البيعة.. ومناسبات الرؤية المباركة 2030، وما يتحقق من إنجازاتها، وكل ذلك مهم وجميل، لكنه في الغالب يغلب عليه التعجل، والتأخير، ويخلو في الغالب من العمق. نعم من حق المواطن أن يبتهج وأن يعبر عن سعادته، ومن واجب الإعلام، والجهات ذات الصلة أن تعمل وتجتهد، لكن الأجمل والأعمق هو أن نرسخ الهوية الوطنية، والقيم الوطنية على مدار العام، وأن تكون ضمن المناهج عبر مراحل الدراسة المختلفة، وعبر المراكز المتخصصة، وعبر أبعاد كثيرة مثيرة ومؤثرة، لا تقتصر على الأزياء والمباخر والعود والطيب على سبيل المثال لا الحصر. ومن ذلك البحوث والدراسات الوطنية المتخصصة، معاجم الشخصيات الوطنية، كتب التاريخ الوطني، والشعر والأدب الوطني. أذكر أن صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز رحمة الله عليه كتب بفهمه العميق للدولة السعودية أوبريت "أئمة وملوك" لمهرجان الجنادرية، وكان هذا بمثابة الانطلاقة لإعادة التفكير في الدولة السعودية الأولى، والثانية، والثالثة، ويوم التأسيس. ونحن دائماً بحاجة إلى التفكير العميق في هذه الأمور الوطنية،والخروج بأفكار جديدة، مع تعزيز الموجود لترسيخ الهوية الوطنية. ولكي أوضح لكِ نظرتي البعيدة، ومقصدي، دعيني أضرب لك مثلاً بالشعر العربي: لو كانت الثقافة أشجاراً فإن الشعر بكل تأكيد هو نخلة الثقافة في المملكة العربية السعودية. فهو ضاربٌ في التاريخ منذ الجاهلية، وهو ممتدٌ حاضرٌ إلى اليوم والغد، يقاوم التصحر وجفوة التعليم والإعلام وتقصيرهما، وشح الدعم والاهتمام، وهو رغم ذلك يمنح الخير والخضرة والظلال مهيباً عالياً متفرداً، وهو ملمح أصيل من ملامح الهوية. وشعرنا العربي راسخٌ رغم الأحداث والتغيرات الكبيرة التي طرأت على هذه المنطقة، والعالم العربي، عبر التاريخ. والشعر لسان حال الناس، حافظ التاريخ والمواقع والحكمة والأمثال، بشقيه الفصيح والمحكي، وهو مرجع المؤرخين والنقاد، وكذلك مرجع اللغويين والفقهاء بعد القرآن كشاهد ومثال على المسائل اللغوية وبالتالي الفقهية المعقدة. كما أنه أساس فنونهم الشعبية وأغانيهم وأهازيجهم. وهو وسيلة من وسائل التعليم والشواهد كثيرة ومن ذلك ألفية ابن مالك في النحو والصرف. وقد ارتبط الشعر العربي ارتباطاً وثيقاً بالشخصية العربية والسعودية سواء أكان مجاله الحكمة والشجاعة والحماسة ومكارم الأخلاق والبطولات وقصص المعارك والملاحم والتاريخ، أم كان نطاقه العاطفة والحب ووصف الطبيعة والكائنات. لقد جسد الشعر العربي التحولات التي مرت بها المملكة، بشكل مباشر وغير مباشر. وظل إلى اليوم الوسيلة الأولى المعبرة عن عقولهم وأرواحهم، أحزانهم وأفراحهم، وجميع مناسباتهم. والشعر متنوع ومتعدد وهو عمود خيمة الثقافة العربية، وقيمة الشعر هو أنه وعاء اللغة العربية المبينة، المهيبة وكذلك البسيطة. ولحفظ اللغة العربية نحن نحتاج إلى التقريب والتبسيط، والقصيدة العربية قادرة على فعل ذلك. والشعر العربي سهل الحفظ، قابل للغناء. والشعر العربي قيمة جمالية عليا، وهو كذلك قيمة عالمية كقوة ناعمة، ورمز لحضارة الشعوب وثقافتها. وحين نلتفت للشعر العربي كما ينبغي، عبر التعليم والارتقاء بالمناهج، وعبر الإعلام الذي يعاني من ضعف وهزال. وعبر تعزيز الشعر العربي كقيمة حقيقية في الهوية العربية والسعودية. وعبر استخراج الكنوز الشعرية من تراثنا الشعري الهائل ونفض الغبار عنها وصقلها وتهيئتها للتداول محلياً وعربياً وعالمياً، عبر وسائل باتت معروفة. وعبر استخدام الشعر العربي كقوة ناعمة. وعبر تغيير النظرة القديمة التي يفكر بها، ويتناول بها كثير من المسؤولين عن الثقافة والتعليم والإعلام، وكذلك الفن والموسيقى موضوع الشعر. عبر كل ذلك يمكننا أن نعوّل على الشعر والشعراء في تكوين هذه الهالة.. في جعل الشعر العربي قيمة حضارية سعودية عالمية. أما عندما نهمل الشعر والشعراء ونهمل نتاجهم واحتياجاتهم فإننا نخسر ركيزة أساسية من ركائز القوة الناعمة التي أصبحت سلاحنا الأول في التعريف بالمملكة العربية السعودية، ودعمها في المحافل الدولية، وكذلك جذب السياحة والاستثمارات إليها. ولك أن تتخيل أنَّ العالم سيأتي إليك لرؤية سوق عكاظ، وجبل التوباد حيث قصة الحب الأشهر لمجنون ليلي قيس بن الملوح، ومضارب عنترة العبسي، ومواقع مغامرات امرئ القيس وقصصه، وجرير، ومنفوحة الأعشى، والمئات من الأماكن، والآلاف من الشعراء..! إنك عندما تقرن عبقرية المكان بعبقرية الشعر ستلفت أنظار العالم إليك دون أدنى شك. وقد طالبت منذ عقود بالالتفات إلى الشعر العربي في الجزيرة العربية، والمملكة بشكل خاص، والاهتمام به اهتماماً خاصاً لرسم صورة بهية للمملكة العربية السعودية، فالشعر العربي انطلق من هنا، وشعر الحب والغزل العذري انطلق من هنا قبل أوروبا، والصورة الشعرية المتقدمة، تلك الأقرب للسينما انطلقت من هنا، كما هي لدى الأعشى، وامرئ القيس وغيرهم كثير من شعراء الجزيرة العربية. ومن ذلك، بل أساس ذلك الاهتمام بالشاعر مبدع الشعر والكلام. وأنت لو سألت الناس لماذا يحبون وطنهم السعودية لما كفتك الصحف..! فلكل منهم سببه المقنع مهما كان بسيطاً. لأن هذا الوطن لا يشبه أي وطن. لا قيادته تشبه القيادات..! ولا شعبه يشبه الشعوب..! ولا جغرافيته يشبه الجغرافيات..! ولا حتى تاريخه يشبه التواريخ. إنه وطنٌ أوحد متفرِّد. وطنُ التوحيدِ مع إبراهيم. ووطنُ القرآن والرسالةِ وختامِ النبوءات مع محمد. لذلك نصلي ونسلم عليهما كل صلاة.. وكل حين! إنه وطنٌ أوحدٌ متفرد، وديارٌ طاهرة مقدسة..! بلاد الحرمين، وقبلة المسلمين، وملاذ الخائفين. مَنْ غَيْرُكَ اكْتَمَلَتْ فِي طَيِّهِ لُغَةٌ بِالْوَحْيِ واختُتِمَتْ في أرضِهِا الرُّسُلُ لوْ كُنْتَ مُفردَةً فالجَمْعُ مُفْرَدُهُ جَمْعٌ.. لِأنَّكَ أنْتَ الدَّوْلَةُ.. الدُّوَلُ بَلْ أنْتَ مَلْحَمَةٌ تبقى مُخلَّدَةً لا يعترِي مَجْدَها شَيْبٌ ولا عِلَلُ ما قِيمَةُ الصَّعْبِ لَوْلا أنْتَ نَائِلُهُ أوْ قِيمَةُ السَّهْلِ لوْ مَا كُنْتَ يَا جَبَلُ لذلك، يمكنني التأكيد على القول إننا بحاجة إلى عقول جميلة، وجهود أكبر، ومراكز حديثة لتفعيل ما ذكرت، ولجعل الوطن برموزه وتاريخه وجغرافيته وقيادته وأهله حاضراً كل يوم، ومحلقاً إلى آفاق أبعد في المناسبات..! جسور بين المواطن والدولة وفي تفسير تأثير الرموز الخفية على المواطن يجيب د. محسن علي القحطاني -قسم علم النفس، خبير في الاتحاد الدولي للصدمات النفسية- قائلاً؛ ان الرموز الخفية هي بنية نفسية خفية، تُشبه "النظام المناعي الاجتماعي" الذي يحمي الثقة والهوية لدى المواطنين، وهي عبارة عن رموز غير معلنة أو غير رسيمة بلا حروف ولا أشكال، ولكنها تحمل دلالات وطنية عميقة، تُعبر عن تمثيلات غير مباشرة وغير مادية للهوية الوطنية. لا تُفرض من أعلى، بل تتشكل من تجارب معيشة وسلوكيات متكررة، وتتجلى في الممارسات اليومية، كالخطاب العام، والأنماط الثقافية التي تُعبّر عن العلاقة بين الفرد والدولة. وتتمثل في السلوكيات الجماعية كالإيثار في الأزمات أو التضامن في المناسبات الوطنية، أو في الخطاب العام الذي يعكس الاحترام المتبادل بين المواطن والقيادة، يمكن تمثيلها في العدالة الاجتماعية كممارسة يومية تُشعر المواطن بالانتماء، ويمكن تجسيدها في الذاكرة العاطفية المرتبطة بالأماكن، الشخصيات، أو الأحداث التي تُستدعى وجدان المجتمع. تساهم في بناء مجتمع حيوي من خلال خلق شبكة تضامن مجتمعية، وتساعد في بناء اقتصاد مزدهر من خلال تحقيق العدالة والشفافية للاستقرار التجاري، وتبنى وطن طموح يُشرك المواطن في رؤية مٌحفزة نحو المستقبل لدولة لا تبني من أجل المستقبل فقط، بل تبني مع مواطنيها. تعمل هذه الرموز من منظور علم النفس، على تعزيز الثقة من خلال إشباع الحاجة إلى الأمان النفسي والاجتماعي وتعزيز الإدراك الجمعي للشرعية والتمثيل وتفعيل آليات الانتماء والولاء غير المشروط عبر الارتباط العاطفي بالمؤسسات. فهذه الرموز تعزز الثقة والمواطنة من خلال إشعار المواطن بأنه مرئي ومسموع حتى خارج القنوات الرسمية، وتأكد على القيم المشتركة التي تربط الفرد بالدولة، مثل الكرامة، والأمان، والاحترام، بالإضافة إلى خلق شعور بالاستمرارية بين الماضي والحاضر حيث تولد قناعة بأن التحولات الجارية امتداد طبيعي لمسيرة تاريخية لا تجربة عابرة، وهذا يسهم في الاستقرار النفسي والانتماء ويخفض مقاومة التغيير. وكذلك العدالة الإجرائية التي تشعر المواطن بأن الإجراءات الحكومية عادلة وشفافة، حتى لو لم تكن النتائج دائمًا في صالحه. والاستجابة للأزمات مثل الكوارث أو الجوائح، حيث يُقاس مدى تلاحم الدولة مع مواطنيها. تُعرّف الثقة الاجتماعية بأنها توقعات إيجابية تجاه سلوك الآخرين والمؤسسات، وهي شرط أساسي لتكوين علاقات اجتماعية مستقرة في السياق الوطني، وتعني الإيمان بنزاهة المؤسسات، وتوقع العدالة في الفرص والمعاملة، والشعور بأن الوطن يحمي ويحتوي الجميع. ومن منظور علم النفس الاجتماعي والإكلينيكي فالثقة الاجتماعية هي الإيمان بأن الآخرين - أفرادًا ومؤسسات - يتصرفون بنية حسنة. وتُبنى عبر شفافية المؤسسات، والعدالة في تساوي الفرص، والتفاعل الإيجابي بين المواطن والدولة. بينما الوحدة النفسية تشير إلى شعور الفرد بأنه جزء من نسيج نفسي مشترك مع الآخرين وهي حالة من التوافق الداخلي بين الفرد ومحيطه الوطني، مما يخلق شعورًا بالأمان والانتماء، وتقليل مشاعر الاغتراب والانعزال، واستعدادًا أكبر للمشاركة المجتمعية، وتحفيز السلوكيات المؤيدة للمصلحة العامة. لذا فالنتيجة هي بناء هوية وطنية قائمة على الانتماء العاطفي والمعرفي، وليس فقط الانتماء الجغرافي أو القانوني. كلا المفهومين يعززان الهوية الوطنية عبر إعادة تعريف "الوطن" كعلاقة نفسية واجتماعية وليس فقط جغرافية وتحفيز السلوكيات الإيجابية مثل التطوع، والدفاع عن القيم، والمشاركة في بناء المستقبل. ووفقًا لنظرية الهوية الاجتماعية فإن الانتماء الوطني يتشكل من خلال إدراك الفرد لعضويته في جماعة وطنية، وما يترتب على ذلك من مشاعر الفخر، والولاء، والتضامن، وتعزيز الهوية الوطنية كهوية نفسية-اجتماعية متكاملة. ويضيف؛ الوحدة النفسية هي رمز غير مرئي لكنه فعّال بدرجة عالية جدًا، لأنها تُترجم إلى سلوكيات جماعية مثل التضامن، والتسامح، والتكافل، وتُعزز مناعة المجتمع النفسية ضد التهديدات الخارجية أو الانقسامات الداخلية. وتُعيد تشكيل الهوية الوطنية لتكون أكثر شمولًا وتنوعًا، دون فقدان جوهرها. وفي ظل التغيرات العالمية، تصبح الوحدة النفسية رمزًا استراتيجيًا للحفاظ على التماسك الاجتماعي، خاصة في المجتمعات متعددة الثقافات أو التي تمر بتحولات سريعة، ويمكن اعتبار الوحدة النفسية رمزًا وطنيًا حديثًا بامتياز، لأنها تُجسد التماسك الداخلي للمجتمع، وتُعبّر عن حالة من الانسجام النفسي بين الأفراد، بغض النظر عن اختلافاتهم الثقافية أو الطبقية، وتُعيد تعريف الرمزية الوطنية لتشمل المشاعر المشتركة، وليس فقط الشعارات أو الأعلام، وتُسهم في بناء "رأسمال نفسي جماعي" يعزز القدرة على مواجهة التحديات، كما في نموذج "المرونة المجتمعية" وفي المجتمعات التي تمر بتحولات سريعة تصبح الوحدة النفسية ضرورة استراتيجية للحفاظ على التماسك، وهي مؤشر على نضج الهوية الوطنية وتطورها. تؤدي الرموز الوطنية في المملكة دورًا مركزيًا في تشكيل الذاكرة الجماعية التي يشترك فيها أفراد المجتمع حول أحداث وتواريخ وقيم وطنية كالارتباط العاطفي بالمناسبات الوطنية مثل اليوم الوطني ويوم التأسيس، حيث تُستدعى مشاعر الفخر والانتماء وتُعيد سرد التاريخ الوطني بلغة وجدانية. كما تؤثر الرموز الدينية والثقافية التي تُشكل جزءًا من الهوية السعودية، مثل الحرمين الشريفين، واللغة العربية، والتراث الحضاري، والمواقع التراثية كالدّرعية والعُلا، وطريقة الخطاب الرسمي والإعلامي الذي يوظف هذه الرموز في سردية وطنية متماسكة. أما الرموز التنموية مثل رؤية 2030، فهي تساهم فيتُجسد الطموح الجماعي وتُعيد تشكيل الذاكرة نحو المستقبل فقد أصبحت رمزًا للمستقبل والطموح الجماعي. هذه الرموز تُرسّخ الذاكرة الجماعية من خلال تكرارها، وتوظيفها في التعليم والإعلام، وربطها بالنجاحات الوطنية. ومن منظور علم النفس الثقافي، هذه الرموز تعمل ك"مراسي معرفية" تُساعد الأفراد على فهم موقعهم في التاريخ الوطني، وتُسهم في تعزيز الإدراك الجمعي للهوية، وتوحيد السردية الوطنية عبر الأجيال، وتحفيز المشاركة النفسية في المشروع الوطني. من منظور نفسي واجتماعي تُمثل "سطحية الرمز" أحد التحديات التي قد تواجه الرموز الوطنية حين تُستخدم دون محتوى عاطفي أوسلوكي حقيقي، فتفقد تأثيرها عندما تُستخدم تلك الرموز بشكل احتفالي فقط، دون ارتباط فعلي بالقيم أو السياسات، مما يفقدها فعاليتها النفسية، أو إذا لم تعكس تلك الرموز تنوع فئات المجتمع التي تشعر البعض بالإقصاء. بالإضافة إلى التحولات الرقمية التي تهمش الرموز التقليدية لصالح رموز رقمية جديدة، مما يتطلب إعادة صياغة للهوية. مع الأخذ بعين الاعتبار الضغط العالمي التأثيرات الثقافية الخارجية التي قد تُضعف الرموز المحلية إذا لم تُجدد وتُفعّل بذكاء في الخطاب الوطني. إذا لم تُفعّل الرموز في الحياة اليومية، فإنها تبقى مجرد صور، ولا تُحدث الأثر النفسي المطلوب والحل يكمن في إعادة تأطير الرموز الوطنية كأدوات نفسية وسلوكية تُستخدم في التعليم،الإعلام، والممارسات اليومية، مع إشراك المجتمع في صياغتها وتطويرها. الخلاصة هي أن الرموز الخفية ليست شعارات، بل تجارب عاطفية ومعيشة تؤكد للمواطن أن الدولة حاضرة معه في تفاصيل حياته اليومية. حين تلتقطها الدولة وتوظفها بذكاء، فإنها تتحول إلى جسر ثقة صامت لكنه عميق، يضمن استدامة التحولات الاستراتيجية لرؤية 2030.