صدر حديثاً عن دار الثلوثية كتاب "ذاكرة العزلة والتواري؛ ملامح ذاتية وغيرية وموضوعية" للدكتور إبراهيم عبدالرحمن التركي العمرو، (الطبعة الأولى، الرياض 2025م)، بسط الكاتب الضوء بشكل عميق على مراحل مختلفة في محطات تأريخية من ذاكرته، وهو عمل سِيري يجمع بين التجربة الذاتية والغيرية، ويطرح موضوع العزلة والتواري من زوايا متعددة: فلسفية، واجتماعية، وثقافية، وحتى شخصية، مدفوعاً لمحاولة الكتابة بإيقاظ ضمير المتكلم على غير ما اعتاد عليه وهو ضمير الغائب لتوجه الكتاب من النصوص إلى الشخوص، ولم تتوقف الذاكرة عند محطة واحدة أو تعلق في زاوية ضيقة للأماكن القديمة أو الحكايات العابرة، بل كانت انسيابية متنوعة الاتجاهات حيث نجد ملامح الحياة في ذاكرة يستعصي على المواقيت نسيانها! تناول الفصل الأول، العزلة بما فيها من صور ودلالات: يطرح من خلالها أسئلة عن جدوى العزلة الاختيارية وارتباطها بإعادة شغف الروح في وسط عالم متغير، هواجسه في الاعتزال الاختياري وكيف تجسدت رغبته في مقاطعة الإعلام والرياضة والضجيج الرقمي، والبحث عن بدائل في الكتب والأفلام العلمية والمحاضرات، واستشهد بنماذج تاريخية وبأمثلة من شخصيات سعودية وعربية اختارت الانسحاب من الأضواء رغم إمكاناتها، وهنا الكاتب لا يقدّم العزلة بوصفها حالة سلبية بالضرورة، بل بوصفها خياراً إنسانياً له وجوه متعددة، منها عزلة اختيارية (قرار شخصي بالانسحاب)، عزلة إجبارية (مثل: جائحة كوفيد 19)، عزلة مختلطة (بين الانسحاب والعودة الجزئية) والتي كان من أبعادها الفكرية: الانفصال عن الواقع، اللغة المغتربة، الحصار الذهني، ومن أبعادها السلوكية تتمثل في: الانقطاع عن الإعلام، والرياضة، والضجيج الرقمي، بينما أبعادها الروحية تتمثل في: البحث عن الصفاء، والتأمل، والبعد عن الصخب. وفي الفصل الثاني، أشار الكاتب إلى أن التواري ليس انقطاعًا عن العالم، بل إعادة تعريف للحضور بعيدًا عن الأضواء، يُعرف الإنسان فيها بعمقه لا بشكله أو حضوره الإعلامي، وذكر لنا نماذج لمثقفين وأكاديميين سعوديين وغيرهم انسحبوا من المشهد رغم إمكاناتهم، وشعراء أحرقوا أعمالهم أو هجروا النشر، وشخصيات ثقافية غابت وتوارت، على الرغم من أنها لم تتصدر منصات الإعلام، لكنها حاضرة في ذاكرة الناس ولا يزال إنتاج بعض منها مستمراً وبعيدًا عن الضجيج في الآن نفسه! كما تلح في ذهن الكتابة مفارقة قوية التأثير حين أصبح "الصمت لغة الصوت، والموت هدوء لا يلائمه الصخب، ويمضي بعضنا بسكينة ويلاحق آخرين الضجيج، والحياة في فصولها محطات نزول وارتحال، ونحن فيها عابرون مستعارون وقريباً مستعادون"، نلحظ بين السطور انطواء الصورة والذاكرة على وقائع تنتمي إليها واستعادة للمشاهد المتعلقة بها، ممتلئة بإشارات أبعد من الكلام؛ فهناك من "تمتلئ خزانته بما يَفيض ويُفيض، في وقت نشهد فيه معضلة الكلمات التي سيطرت على الساحات بعدما أصبحت الوسائط التقنية منبر الجميع، وجعلت من الصامتين يحكون والمتكلمين يسهبون والهارفين يعرفون، فباتت مزدحمة بمن يسكنون حواريها وحواشيها حتى اكتظت أرصفة وضاق الفضاء" لتترجل عن هذا المشهد هواجس عدم الجدوى التي سكنت مرافئ المثقفين وأخلدتهم إلى الصمت والعزلة أو التواري عن الأضواء حتى لا يحترقوا بوهجها، فطرح الكاتب أسئلة عن العزلة قادته الأجوبة نحو دراسة نماذج ثقافية وغير ثقافية لأناس ارتسمت معالم حضورهم فعرفوا ثم شاؤوا أن ينصرفوا عن المشهد، فهل يا ترى كانت العزلة الاختيارية قادرة على إعادة الروح الباسمة والنفوس الطيبة والمساحات المورقة؟ ليست الحكاية إمكانات أسلوبية أو وعيًا قرائيًا أو مدركات ذاتية وجمعية، بل هو استفهام يحمله تأمل عمر بأكمله عن جدوى الكتابة، ليفتح لنا نافذة تعكس هذا التحول الذي يجذبه نحو العزلة، إذ يقول التركي في كتابه: "فقد كفاني زمن سابَقت فيه وسبقت، وآن أن يُظلني زمن أتساوق فيه برضا تام مع الجهل والتجاهل والغفلة والتغافل غير عابئ بما يموج في العالم من اضطرابات ومتغيرات، ولا تفسير منطقيًا لدي سوى أنها عزلة اختيارية عن أحداث اللحظة؛ فقد مللت وأمللت، وبالغت فما بلغت". وأضاف: "في المواقع الرقمية ضجيجاً أشد، وأن مساحات الوقت تستحق رفيقاً أو رفقاء، شخوصاً أم خلوة ذات أم كتابة نص أو حتى زاوية مقهى عتيق مع الأصفياء!". كما ذكر في أحد كتبه السابقة: "معظمنا بحاجة عزلة اختيارية ذات لون لا يتماهى مع نفسية بائسة أو يائسة بل بإرادة منفتحة واعية لا تنفصل بمقدار ما تتصل كي ندرك ذواتنا بعيداً عن تملق الآخرين أو السعي نحو رضاهم، سنكتشف أن للهواء رائحة لا يخالطها الغبار، وأن للماء مذاقاً لا يشوبه الكدار، وأن من لا نراهم ولا نقرأهم ولا نستمع إليهم أجدر بوقتنا وصحتنا وأجدى، وأننا لا نشكوى ندرة في الكتبة بل فائضاً فيهم، بعدما أصبحت الوسائط الرقمية ملأى بالهارفين، ولكننا نلمس تضاؤلاً يبلغ درجة الانطفاء في العارفين، بين العزلة والتواري استفهامات وأسئلة لأجلها تتسع الهوامش وتضيق، وتكتب المتون وتمحى، ويعيش الناس ويفنون، ويبقى في الآفاق ملايين النجوم تلوح وتختفي، لكن أرقاماً صغيرة من النجوم تظل مشعة أبد الدهر"، ونخلص إلى أن العزلة والتواري وجهان لمشاعر واحدة ولو كان هناك اختلاف في المفهوم؛ فالعزلة انسحاب داخلي بينما التواري انعكاس خارجي يظهر في شكل غياب عن المشهد العام، وكلاهما ليس هروبًا، بل إعادة تعريف للحضور! وينتهي الكتاب بفكرة مفادها: أن العزلة ليست نهاية، بل مرحلة يمكن تجاوزها، وأن الخروج منها يعني العودة بوعي جديد، وتجربة أكثر عمقًا.