كيف تعيد الفنون والرياضة تشكيل وعي ذوي الإعاقة؟ هل يمكن أن يكون المسرح أكثر من منصة؟ وهل تصبح الحركة شفاءً؟ سؤالان يبدوان فلسفيين، لكن الإجابة وجدتها في لحظة من التصفح، حين لفتتني تغريدة عن مبادرة فنية نظّمتها جمعية خويد للمسرح والفنون الأدائية بجازان، كانت عبارة عن تجربة مسرحية تتيح لذوي الإعاقة فرصة التعبير عن الذات. لم تكن مجرد فعالية ترفيهية، بل ورشة حياة، فيها يتحول الأداء إلى وسيلة لاكتشاف الذات وإعادة بنائها. حينها، استعدت ذاكرتي الشخصية. كنت في الخامسة عشرة، عندما فقدت بصري، فانطفأ داخلي نور لم يكن في العين فقط، بل في الدافع للاستمرار. هجرت المدرسة، شعرت بالعزلة، وراودتني أسئلة الرفض والخذلان. حتى جاء والدي -رحمه الله- وأصرّ أن أبدأ بتجربة جديدة: رياضة الكاراتيه. دخلت مترددًا. لكن مع الوقت، أصبحت الحركات التي أؤديها على البساط طريقًا لتفريغ الغضب، والتحرر من ثقل النظرة المجتمعية. ومع كل حزام أكتسبه، كنت أسترد جزءًا من نفسي. لم أعد أرى الإعاقة كقيد، بل كهوية فريدة تستحق أن تُحترم وتُفهم. الرياضة والفن: أدوات مجتمعية لإعادة البناء تُظهر دراسات علم النفس الاجتماعي أن المشاركة في الأنشطة التعبيرية - كالمسرح، والموسيقى، والرياضة - لها أثرٌ بالغ في تحسين جودة حياة الأفراد ذوي الإعاقة. يشير تقرير لمنظمة الصحة العالمية ( WHO, 2022) إلى أن هذه الأنشطة تساهم في تعزيز احترام الذات، وتقلل من مستويات القلق والعزلة الاجتماعية بنسبة تصل إلى 40 %. وفي دراسة نُشرت بمجلة Journal of Positive Psychology (2021)، وُجد أن الانخراط في الفنون التعبيرية يفعّل مناطق في الدماغ مرتبطة بالمرونة النفسية وبناء الهوية الإيجابية. أي أن هذه الهوايات ليست ترفًا، بل ضرورة نفسية - اجتماعية - تنموية. من الهواية إلى التمكين الرسالة الأهم أن هذه الفعاليات ليست هدفها اكتشاف مواهب فقط، بل تُمكِّن الإنسان من التعرّف على ذاته، التعبير عن مشاعره، والتصالح مع اختلافه. وبذلك، يصبح عضوًا منتجًا لا مستهلكًا، فاعلًا لا هامشيًا. رؤية 2030: الإنسان أولًا، التحولات الكبرى التي تشهدها المملكة في ظل رؤية 2030 تؤكد أن التنمية تبدأ من الإنسان، وتكتمل بمشاركته. وعندما تُدمج الثقافة والرياضة والتقنية ضمن مشاريع تستهدف ذوي الإعاقة، فإننا لا نمكّنهم فقط، بل نعيد صياغة الصورة المجتمعية عنهم. من التعبير تبدأ الرحلة من واقع تخصّصي في علم الاجتماع، أؤمن أن الطريق نحو تمكين ذوي الإعاقة يبدأ بفتح المجال أمامهم للتعبير، ثم يأتي دور السياسات والمبادرات لاحتضان هذا الصوت. وبينما يقترب اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة، لنجعل هذه المبادرات أكثر من مناسبات.. لنجعلها مسارات مستدامة للتمكين، ومضامين تُترجم في السياسات والمجتمع والوعي العام. ختامًا.. دعوهم يعبّرون فلنُفسح المجال أمام ذوي الإعاقة ليعبّروا عن ذواتهم.. دعونا ننتقل بهم: من الصمت إلى الصوت، ومن الهامش إلى الفعل، ومن الإعاقة إلى الطاقة. * أكاديمي وباحث في مجال تمكين الأشخاص ذوي الإعاقة