حياة الهوس سطحٌ لامع، وقاعٌ معتم، وضوءٌ يبهر لا يُنير.. ومن يتابع هؤلاء ويُشيع حضورهم إنما يمنح الوهم قوةً لا يستحقها، فالوعي أثمن من أن يُسلَّم لسطحياتٍ تقتات على الضجيج، والفكر أعمق من أن يصبح صدى لتفاهة عابرة، والأخلاق أرفع من أن تُباع في مزاد الشهرة.. أتعجب من كبار تأخرت أعمارهم يريدون أن يلحقوا بركب الشهرة، وشباب وصغار ونساء انغمسوا كلهم كأنهم يمشون فوق حافة مرآة متهشّمة تلمع تحت أقدامهم شظايا الضوء، فينخدعون ببريقٍ لا أصل له، ويحسبون أن انعكاسهم المتكسر مجدٌ يستحق أن تُنتهك لأجله الضمائر، وأن تُعلَّق على مشانق الفراغ آخر ما تبقّى من الخصوصية والحياء. هؤلاء ليسوا أبناء عصرٍ جديد؛ بل أبناء هوسٍ قديم جاء بثيابٍ رقمية وتغذّى على فكرة أن الإنسان لا يصبح شيئًا إلا إذا كشف كل شيء، وتنازل عن كل شيء، وتجرّد من قيمه كما يتجرّد الممثل على خشبة مسرحٍ مُظلم؛ لا يرى فيه سوى ظلّ نفسه وهو يتراقص تحت ضوءٍ باهت. يظنون أن الشهرة منصة، وأن الترند بوابة خلاص، وأن الأضواء قادرة على أن تمنحهم هوية، فيتسابقون إلى كاميرات أجهزتهم، ووسائلهم التواصلية كما يتسابق الظمآن إلى السراب، يفتحون نوافذهم على العالم كما تُفتح أبواب المزادات، يعرضون ما خفي من عقولهم، وما اختبأ في قلوبهم، وما بقي من أسرار بيوتهم من وجوه أطفالهم، من هدوء غرفهم، من تفاصيل حياتهم التي كانت يومًا ملكًا للروح، ويحوّلونها إلى بضائع تُقاس بعدد العيون المتلصصة، وتُثمَّن بعدد الإعجابات، وكأن الستر بات عيبًا، وكأن الحياء صار عملة قديمة لا تصلح للتداول. وفي سبيل ملامسة خطّ الترند؛ لا يتردد كثير منهم في كسر المألوف؛ ليس بحثًا عن الإبداع والمنفعة؛ بل بحث عن الجلبة، والضوضاء التي ترفعهم لثوانٍ إلى أعلى ثم تلقي بهم إلى القاع، فقد يفعلون الشاذّ من الفعل والقول والفكر كأنه اكتشافٌ عظيم، ويصنعون الجدل كما يُصنع الخبز، ويُلبسون التفاهة ثوبًا مُثيرًا، ويظنون أنهم بذلك يغيّرون العالم؛ لكن العقول السطحية مهما لمع سطحها تبقى كبركة ماءٍ ضحلة تعكس السماء ولكنها لا تحتضن عمقها. وعيهم هشّ كجدار طينيٍّ نخرته الرطوبة تتداعى زواياه عند أول ارتطام، ونفوسهم تتهاوى بلا مقاومة كأنها مُعدّة للسقوط مسبقًا يكفيها دفعة خفيفة من الوهم لتتدحرج حتى تنتهي عند أسفل السلم حيث لا يُسمع إلا صدى هوسهم؛ لا علمٌ يردهم، ولا شهاداتٌ ترفعهم، ولا غِنى يَعصمهم ولا نصيحة حكيم تُبصرهم ولا خوفٌ على سمعةٍ تُلزمهم؛ المهم أن يشتهر، أن يُذكر اسمه ولو تحت خبرٍ سمج، أن يراه الناس ولو لسوء، أن يكون مادة تُستهلك ولو أُكلت كرامته في الطريق. إنهم يشتهون الأضواء ولا يدركون أن الترند الذي يتعلقون بحوافّه ليس قمة؛ بل هاوية تستدرج من يظنّ أنه قادر على تجاوز كل الخطوط، تراهم يخلطون بين الحرية والفوضى، بين الجرأة والانحدار، بين التعبير والابتذال كأنهم أبناء معجمٍ جديد سقطت منه الكلمات العالية، وبقيت فيه المفردات الهابطة التي لا تقوم بها حضارة، ولا تُبنى بها قيمة، ولا يحترم بها إنسان نفسه. كلما هبط وعيهم ارتفع صوتهم، وكلما قلّ ما يملكونه في الداخل زادت حاجتهم إلى الخارج، إلى التصفيق، إلى المتابعين، إلى أن يُقال عنهم ما يقال ولو لساعة، ولو لدقائق، ولو بفضيحة، فالأضواء عندهم ليست وسيلة بل غاية تُبيح كل محرّم، وتفتح كل باب، وتمنحهم شعورًا زائفًا بأنهم أحياء. يعيشون في فقاعةٍ كبيرة تتضخم كلما زادت ضجة العالم حولهم لكنها تنفجر عند أول لحظة صمت، عند أول مساء يخلو من الإشعارات، عند أول ليلة لا يكتب فيها أحد اسمهم، عند أول سقوطٍ يتجاهله الجمهور الذي كان يومًا وقود جنونهم.. هؤلاء أسرى هوسٍ يأكلهم من الداخل، ينحت ملامحهم، ويمحو أصواتهم، ويستبدل إنسانيتهم بصورةٍ باهتةٍ على شاشةٍ تُمرَّر سريعًا لا يبقى منها سوى لغة الانحدار، وسيرة فارغة، وحكاية لا تُروى؛ لأنها لم تُبنَ على معنى؛ بل على رغبة عمياء في الظهور ولو على حساب كل شيء حتى أنفسهم، وفي نهاية المطاف حين يهدأ الصخب، وتنطفئ الأضواء، ويعود كل شيء إلى حجمه الحقيقي يبقى سؤالهم الوحيد، وهو سؤال موجع وعارٍ وخالٍ من المجد: هل كنتُ مشهورًا، أم مجرد ضجيجٍ مرّ سريعًا ثم انطفأ ولم يترك خلفه شيئًا يستحق أن يُتذكَّر؟ هذه هي حياة الهوس؛ سطحٌ لامع، وقاعٌ معتم، وضوءٌ يبهر لا يُنير. ويبقى القول: من يتابع هؤلاء ويُشيع حضورهم إنما يمنح الوهم قوةً لا يستحقها، فالوعي أثمن من أن يُسلَّم لسطحياتٍ تقتات على الضجيج، والفكر أعمق من أن يصبح صدى لتفاهة عابرة، والأخلاق أرفع من أن تُباع في مزاد الشهرة.. وعلى المتابع أن يكون ميزانًا لا ممرًا، وعيًا لا وقودًا.