في زمن كان فيه المحتوى محصورًا في شاشة واحدة؛ يحملها صندوق ثقيل بوجه محدب وبطن منتفخ يُصلَح أحيانًا بضربة على الظهر، كان يجلس الناس أمامه. لم يكن كل ما يُعرض فيه عظيمًا أو راقيًا، لكنه لم يكن طاغيًا أو محشوًا حتى الحافة بالتفاهة. البرامج تمرّ، بعضها عابر، وبعضها ساذج، لكنها لا تطارد أحدًا، ولا تملأ يومه حتى التبلد. وكان بإمكاننا أن نغلق الجهاز ونختار الصمت، أو نترك الشاشة دون أن نغرق في إحساس التقصير أو الخوف من تفويت شيء. أما اليوم، فالمشهد تغيّر؛ أصبحت التفاهة أكثر حضورًا... لا بوصفها استثناء، بل كقاعدة. في المنصات، وفي الشبكات، وفي "الترندات"، تُقدَّم السطحية تحت مسميات متعددة: محتوى، خفة ظل، قرب من الناس، "لايت"، لكنها في حقيقتها تشكّل طبقة كثيفة من الضجيج الذي يصعب تجنبه. المحتوى الهابط يلاحقك: في يدك، وفي جيبك، وفي الطريق، وفي اللحظة التي تبحث فيها عن شيء يُشبهك أو يشبه فكرك. وحتى حين تحاول أن تُزيح ما لا يلائمك، وتضغط على خيار "إخفاء هذا المحتوى" أو "لا أريد رؤية هذا"، يعود إليك مجددًا في قالب مختلف، أو بوجه مألوف. كأن التفاهة لا تُطرد، بل تُؤجَّل قليلاً... لتعود بقوة أكبر. وكلما سعيت لاختيار غيره، وجدت نفسك في مواجهة خوارزميات لا تفتح الباب إلا لمن يصرخ أكثر، أو يُضحك بلا معنى، أو يجذب بلا مضمون، وأصبح السخف سلوكًا عامًّا يُقدَّم للجمهور على أنه الأكثر جذبًا، والأعلى مشاهدة، والأجدر بالظهور. ولا يعني ذلك أن المحتوى يجب أن يكون نخبويًا معقّدًا، أو أن يخلو العالم من الطرافة والتسلية، لكن الفكرة أن هذا السخف حين يصبح هو السائد، فإن الذوق العام يتشوّه، والوعي الجماعي يضعف، والمقاييس تنقلب، ويصبح ما يُقدَّم للناس ليس ما يرتقون به... بل ما يُبقون أعينهم عليه لأطول وقت. الخطر ليس في وجود التفاهة، بل في تغذيتها، وتصديرها، وتحويلها إلى مرآة لما نحن عليه. والنتيجة: أن تتحول "الاستثناءات" إلى "معايير"، وأن يشعر العاقل بأنه خارج السياق، لا لأنه غريب... بل لأن الضجيج يغطي كل شيء. المعركة اليوم ليست بين "الترفيه" و"الجدّ"، بل بين ما يُقدَّم بسهولة، وما يستحق أن نبحث عنه، بين ما يُضحكك في لحظة، وما يُضيف إليك شيئًا بعد أن تبتسم. الفرق بين الأمس واليوم؟ أنك كنت تختار، أما الآن... فقد أصبحت تختار من بين ما اختير لك.