حين أعلن عن وفاة الشيخ ربيع المدخلي، تسابقت الأقلام الإخوانية وما تفرع عنها إلى إعلان الفرح والشماتة بموته، أو الهجوم على شخصه وأفكاره، وهو الذي جاوز ال90 فلم يكن في موته غرابة، لكن للمدخلي خصوصية جعلته يتصدر قائمة العداء لمختلف هذه الجماعات، بل لا عجب أن عداءهم له يفوق أي شخصية أخرى حتى ممن حل جماعة الإخوان نفسها، فصراع الإخوان مع جمال عبدالناصر في الخمسينيات والستينيات، الذي تخلله حل الجماعة سنة 1954 وانتهى بإعدام سيد قطب سنة 1966، لم يمنع محمد مرسي من ذكر جمال عبدالناصر في مجمع الحديد والصلب بمناسبة عيد العمال سنة 2013، والإشادة به بأنه أراد لمصر أن تتحول إلى قلعة صناعية، وصفق له الحضور حينها بحرارة، لكن هذا يستبعد تماماً في حال المدخلي! لقد تخصص ربيع المدخلي بأحد أهم العلوم الشرعية عراقة وهو علم الحديث، فلا يستطيع الإخوان ومن وافقهم أن يقللوا من قدر علمه ومعرفته الشرعية، ثم إنه كان قد اطلع على كتب الإخوان وعرف ما فيها، واستشف منها مراميهم، وعلى خلاف غيره لم يكتف بالتحذير من الجماعة وأفكارها على طريقة الجرح فحسب، بل صنف في ذلك رسائل وكتباً تحيل على موضع الشاهد من كلامهم، ثم يتبعه بنقده وتتبعه ونقولاته عن المصادر الشرعية، وخصص سيد قطب بالنقد الشرعي، بما منحه مؤهلات تشكل خطورة كبرى على المخيلة الإخوانية لأن صراعه معهم تجاوز الصدام الزمني، إلى الروحي واللازمني، فهو يقدم سردية تزاحم سرديتهم، وقراءة تزاحم قراءتهم، وفوق ذلك هو شخص توجد فيه صفات طالما عدتها الجماعة أوسمة في رموزهم، ويجعلونها عامل جذب وتسويق للجماعة. فقد نشأت جماعة الإخوان في مصر، وقدمت نفسها على أنها ممثلة للإسلام، ورفعت شعار «الإسلام هو الحل» وكانت حريصة على تصدير نفسها على أنها من تقف في وجه العلمانيين، وموجات التغريب والانحلال، وسارعت الجماعة في الثمانينيات إلى عقد عدة مناظرات مثل تلك التي اشترك فيها القرضاوي مقابل فؤاد زكريا بعنوان «الإسلام والعلمانية» في 1982، ثم شارك الغزالي في مناظرة مقابل فرج فودة في 1985، وطبعت تلك المناظرة في كتاب بعنوان «مصر بين الدولة الإسلامية، والدولة العلمانية» سنة 1992. فدعاية الجماعة صورتها كأنها رأس حربة في مقابل أي هجوم على الدين، هي مقابل للعلمانية وإقصاء الدين عن الدولة أو المجتمع، واستطاعوا تحت هذا العنوان تنفيذ الإعدام المعنوي بكثير من الكتاب والمفكرين والمترجمين والصحافيين والأدباء من خصوم الجماعة، من الذين ابتلعوا الطعم، وسايروا الجماعة في مناظراتها، إذ سلموا ضمناً بذلك أن الجماعة هي الممثلة لنظرة الإسلام، فقبلوا المناظرة معها وفق العناوين التي اختارتها، أو التي سوقت لها بعد المناظرات، في حين أن عالماً شرعياً مثل المدخلي يخالف العلمانية، ويرد على كل ما يخالف الإسلام، لكنه زيادة على كل هذا يرى أن الجماعة لا تمثل الإسلام، بل تحمل أفكاراً تناقض الإسلام، وبهذا ارتقى إلى رأس هرم العداء مع الجماعة! فهو يهدم الجماعة بالأدوات نفسها التي تدعي تمثيلها، يهدم سرديتها، ورمزيتها، وأسلوبها التسويقي، وادعاءاتها العلمية والشرعية. فالجماعة سوقت لمن ذهب إلى أفغانستان كعبدالله عزام وغيره، وكان الشيخ ربيع قد ذهب إليها، ويزيد على رموزها في العلم الشرعي، فهو حاصل على دكتوراة في علم الحديث، على أن حسن البنا حاز دبلوماً من دار العلوم في اللغة العربية وبعض العلوم الشرعية سنة 1927، وسيد قطب بكالوريوس آداب سنة 1932، ومحمد الغزالي بكالوريوس سنة 1941 في أصول الدين، فهذا يظهر تفوق المدخلي في التحصيل العلمي على هؤلاء وهم من أعمدة الجماعة. خطورة المدخلي بالنسبة إلى جماعة الإخوان تجعله يصنف في مخيلتها ومخيلة المتأثرين بها في مرتبة التهديد الوجودي، أن تكون الجماعة أو لا تكون، فهو يزاحمهم في كل ما يدعونه لأنفسهم، ولا يستقي أقواله إلا من مصادر تزيد في الأصالة على مصادرهم، ويعتمد على تركة علماء سابقين طالما تاجرت الجماعة بأسمائهم كابن تيمية، في محاربة أفكار الإخوان، وإظهار أن ما عندهم مجرد تلاعب أيديولوجي لأهداف سياسية، فصراع المدخلي امتد إلى التاريخ وقراءته، والمصادر التشريعية، بما جعله صراعاً لا زمنياً تضيق به الجماعة، وتراه أشد عليها من التضييق الأمني والسياسي.