«سوف يأتي ذكرك مرات قليلة من قبيل الصدفة». كأنّ ديستوفسكي، وهو يغزل كلماتٍ تنقّبت عن خفايا النفس، أراد أن يوقظنا على حقيقة مُرّة، أكثر البشر يعبرون الحياة خفافًا كأنهم لم يكونوا، ويمضون منها كما تمضي الريح، لا يُخلّفون صوتًا ولا ظلًا. فمن بين آلاف الوجوه التي نصادفها، كم واحدًا يترك أثرًا يستمر حين يغيب؟ كم روحًا تنقش حضورها في ذاكرة الزمن، فتبقى حاضرة حتى في غيابها؟ إن الحديث عن الأثر الإنساني بعد الموت ليس حديثًا عن الذكرى العابرة، ولا عن الشهرة المؤقتة، بل هو حديث عن «الامتداد الوجودي» للإنسان، أن تظلّ حيًا وأنت ميّت، لا يعني أن تُصنع لك التماثيل، بل أن يبقى لوجودك صدىً في قلوب الناس، في وعيهم، في سلوكهم، في قيمٍ تعلموها منك، أو فكرةٍ أورثتهم إياها، أو موقفٍ صنع فارقًا في مصيرهم. لم يكن الأثر ضجيجاً أبداً، بل العمق الذي يحدثه، وكثيرون يملؤون الدنيا صخبًا في حياتهم، فإذا ماتوا سكنت أسماؤهم كما تسكن ذبذبات الصوت بعد انقطاعها، وقليلون من يزرع بذورًا في أرواح الآخرين، تنمو بعد رحيله، وتورق ذاكرةً لا تنطفئ. ثمة من يظن أن الأثر مرهون بعظمة الإنجاز، وهذا وهمٌ فلسفي، فالأثر لا يُولد من حجم العمل، بل من صدقه، ومن عمق الصلة بين الإنسان والإنسان قد تكون كلمة مواساة في لحظة انكسار، أو موقفًا نبيلاً في وقت حرج، أو صدقًا في زمن الزيف، كل هذا قادر على أن يجعل ذكرك ناجياً من النسيان. الخطب لا تصنع الأثر، بل بالتماس الحقيقي مع ما حوله، أن تحيا حياةً ذات معنى، يعني أن تعيش حضورًا يتجاوزك، وأن تدرك أن كل فعل تؤديه، وكل كلمة تنطق بها، قد تكون امتدادًا لك في الآخر، فالأثر الحقيقي لا يصدر من إرادة التأثير، بل من عمق الوجود. وقد يكون الموت فيزيائيًا، لكن الأثر حياة أخرى تُمنح لمن استحقها. وقد يموت الجسد، لكن تبقى الحكاية، ويبقى الصدى، ويبقى النور الذي أضأته في قلب أحدهم وهو يعبر عتمة الأيام. الفلاسفة والأدباء والمصلحون، كلّهم ماتوا، لكن أرواحهم لا تزال تُحادثنا، ذلك لأنهم عاشوا الحياة لا على هامشها، بل في لبّها، وكتبوا في سجل الوجود حروفهم بحبرٍ من معنى. ماذا سيبقى مني حين أنتهي؟ في هذا السؤال يكمن جوهر الإنسان، وفي جوابه تنكشف قيمة العمر الذي عشناه. ختاماً: حاول أن تكون أثرًا، لا اسمًا، حضورًا، لا رقمًا، ضوءًا، لا صورة، فلربما يأتي ذكرك لا من قبيل الصدفة بل من قبيل الامتنان.