لم تكن الموسيقى قبل زياد الرحباني "1956-2025"، ذات فكر حديث في طابعها الفني، كانت ذات لون متعارف عليه ممزوجا بالفنون المكتسبة من الإرث الشعبي، كان متمردا على موسيقى النوعية في لبنان والتي انتشرت إلى حد كبير في الوطن العربي. كان زياد الرحباني، يدخل حيز الإبهار عندما قدم للسيدة فيروز "سألوني الناس"، قبلها كانت أولى محاولاته الشعرية تحمل عنوان "صديقي الله" في عام 1967. كانت الفكرة تبشر بدلائل أن هناك عبقريا، سيغير مشهد الموسيقى وكتابة الأغنية، بعد أربع سنوات بالضبط "1971"، عاد زياد لممارسة صياغة الألحان في "ضلك حبيني يا لوزية"" كل مايحدث هو كلمات بيئية ترسخ في ذاكرة المستمعين، لكن القفزة التي تعني زياد رحباني، عام 1973 وهو في عمر "17" تحديداً، عندما خلد مع والدته أغنية "سألوني الناس" للسيدة فيرز والدته، القصة، عندما قام زياد بتقديم أول لحن لوالدته عندما كان والده عاصي الرحباني، طريحا في المستشفى، كان حينها قد قرر لفيروز أن تلعب الدور الرئيس في مسرحية "المحطة" للأخوين "رحباني"، كان لمنصور العم، أن يكتب أغنية لفيروز تعبر فيها عن مشاعرها عن غياب عاصي "الزوج" لتقدمها في مسرحية "المحطة"، زياد كان فذًا وهو يلحن بداية "أسطوريته". والتي خلدت في ذاكرتنا، فكلما مرّ الزمن، عاشت وأعادتنا لمرحلة عشقناها في زياد لتبرز مكانة فنية بين الموسيقى بالعالم. كان زياد مدهش وهو يفتتح أولى اعماله مع السيدة فيروز بأغنية لا تشبهها الأشياء السابقة "سألوني الناس عنك يا حبيبي.. كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا"، فعلاً، مؤكد ما يحدثه زياد من مفاجآت، موهوبة أحدثت صدمة إنعاش للخمول الفني، ليأتي بعدها إنعاش فكري جديد مدهش في توسع مدارك زياد الموسيقية وقدرته على إخراج لحن يضاهي ألحان والده وما يطرح في الساحة الفنية. عندما دار الحوار بيني وبين صالح الشهري -رحمه الله- عن زياد الرحباني، قال: لن تسمع ألحاناً وموسيقات، أجود مما تسمعه من زياد، قابلته في بيروت، كان إنساناً عبقريا، وإنسانا يمثل الموسيقى في العالم، ينتمي لثقافة الفكرة، قبل أن يداعب البيانو". زياد الرحباني، في الأصل من ثقافته أنه "ملحن ومسرحي وكاتب"، تميز عن أقرانه بحداثة الموسيقى يتسيد مدرسة عريقة في الموسيقى العربية والمسرح المعاصر. ربما البيئة التي نشأ فيها "زياد الرحباني" أسهمت في نبوغ موهبته وفعاليته، فوالده الموسيقار عاصي الرحباني "1923–1986" ووالدته المطربة نهاد حداد "فيروز" وعمه الشاعر منصور الرحباني. كان الثنائي "الأخوين رحباني" سبق وشكلا ظاهرة في المسرح الغنائي اللبناني منذ خمسينيات القرن العشرين، ومهرجانات لبنان "بعلبك" و"بيت الدين". هذه النشأة وكثافة الإنتاج الفني، ودراسة الموسيقى الكلاسيكية والجاز على البيانو، وتعلم التأليف الموسيقي والتوزيع، وتأثره بموسيقى الجاز الأميركية. أسهمت فعلياً في صناعة فكر مختلف عن سائر ملحنين في الوطن العربي. في "المحطة" لم يكن ملحنا فقط، لأغنية "سألوني الناس"، بل دخل دوراً لشرطي، دخول زياد حينها وهو في سنّ "17"، كان مثار دهشة، ودعماً لموهبته، ظهر أيضا في "ميس الريم" بدور شرطي أيضاً في حوار موسيقي مع فيروز. وفي تلك المسرحية كتب زياد المقدمة، برتم موسيقي مختلف ونادر حينها، فرض على "الرحباني أخوين" موهبته. في تلك السنوات، وبعد إكتشاف موهبته، طلبت إحدى الفرق المسرحية اللبنانية التي كانت تقوم بإعادة تمثيل مسرحيات الأخوين رحباني، تضم حينها مادونا المغنية الاستعراضية التي كانت تمثل دور السيدة فيروز في تلك المسرحيات، طلبت منه أن يقوم ولو لمرة واحدة على الأقل بتمثيل مسرحية أصلية بنص جديد وأغانٍ جديدة وبقصة جديدة، فعلاً استلم المهمة، وكان أولى مسرحياته "سهرية"، كانت كما يصفها زياد "حفلة أغاني" لا أهمية للقصة فيها بقدر ما هو مهم استمرار الأحداث كوسيلة لتمرير المقطوعات والأغاني. بعدها توالت المسرحيات، ولكن بأسلوب مختلف جداً عن الأسلوب السابق (الرحباني) حيث اتخذت مسرحيات زياد الشكل السياسي الواقعي جداً، الذي يمس حياة الشعب اليومية، بعد أن كانت مسرحيات الأخوين رحباني تغوص في المثالية وتبتعد قدر الإمكان عن الواقع، ويعيش فيها المشاهد خيالاً آخر وعالماً آخر. هذا ما لم يقبله زياد لجمهوره، وخاصة أن الحرب الأهلية كانت قد بدأت، في بحثه المعنون "حصاد الشوك: المسرح السياسي الكوميدي في سورية ولبنان" كتب أكثم اليوسف "في ظل هذه الظروف، فرض زياد نفسه على الساحة الفنية ككاتب مسرحي، ومخرج، وملحن، وعازف بيانو، وممثل. وفي وقت قصير، سيصبح مسرحه الأصيل محط اهتمام الشباب الذين وجدوا فيه صوت جيل ضائع عالق في مرمى الحرب والعنف." تقول كارمن زوجة زياد: "إن زياد شخص جدلي، يعامل المديح والنقد على حد سواء، ببساطة، كان زياد الشخص الوحيد الذي أحببت، فطوال الأعوام الخمسة عشر، لم أتعلق بزياد رحباني الشخص الذي تكلله الأضواء، والتي يراه الناس من خلالها، بالنسبة لي هو الرجل الذي أحببته وعشت معه". تميز زياد الرحباني بجمع من الإرث الفني والأسلوب الموسيقي الفذّ، تمرد عن ما كان يحدث قبله، جمع ما بين الموسيقى الشرقية الكلاسيكية وأنماط الجاز والبلوز والفانك والروك. موسيقات مبتكرة استعمل فيها المقامات العربية وتوليفات غير تقليدية شكّل معها نهجًا جديدًا في الموسيقى العربية. إضافة إلى ألحانه لوالدته السيدة فيروز التي قدم معها عددا من الأغاني، منها "عودك رنان، أنا مش كافر، إي في أمل، بما إنو، مارغريتا وغيرها"، إضافة إلى موزع موسيقيا في أعمال كثيرة، منها مسرحية، وتوزيع أغاني تراثية، إضافة إلى التوجه السياسي والاجتماعي وأفكار جديدة في المسرح استخدم زياد فيها النقد الساخر أبان الحرب الأهلية، متطرقا لحالة الفساد والطائفية وغيرها، كان من بينها "بالنسبة لبكرا شو؟"-1978-، كذلك "فيلم أميركي طويل" -1980- ومسرحية "شي فاشل" -1983- وايضا "نزل السرور" -1974- كانت تلك المسرحيات مرتبطة زمينا مع الأحداث في لبنان. لكن على الجانب الآخر، كانت موهبة زياد الرحباني، تكبر على الموسيقى الشرقية التقليدية، لم يعد به الأمر، ربما الدعم الذي صادفه وثقة والدية في مسرحية "المحطة" تلك التجربة الرئيسة. تلتها مسرحيات متواصلة منّذ "سهرية" عام 1973، حتى الفصل الأخير في جزئها الثالث، لكن لم يعلم أحد أن أنغام زياد الرحباني مع والدته فيروز مرّت على مسمعنا كالنسيم، من بينها، "أنا عندي حنين"، والتي تعيدها الإذاعات على مسمعنا بشكل يومي، وأغنية "حبيتك تنسيت النوم"، والقصة السردية "على دير البوسطة" -يخرب بيت عيونك ياعليا شو حلوين- وكذلك "عودك رنان" وأغنية "سألوني الناس" التي أسهمت في نبوغ تجربة فنية خالدة، وغيرها العديد من الأغاني صوت فيروز السوبراني، لكنه عاد ليفاجئ العالم بألبوم "ولا كيف" أيضا موسيقات نوعية مختلفة غيرت فكرة كتابة النوطة وتوزيعها "2001" وألبوم في أمل "2010" وأغاني وألبومات للفنانة لطيفة التونسية، وحفلات موسيقية في كل مكان بالعالم، مع كل هذا الهم الموسيقى، لم ينس هذا العبقري "الطفل"، فقدم حكايا "ألبوم للأطفال"، وألبوم مسرحيتي "أمرك سيدنا" و"أبطال وحرامية"، إضافة أنتج عدة برامج إذاعية عبر فيها عن مواقفه السياسية والاجتماعية، وظهوره في فيلم "نهلة" بدور عازف، عام 1979 وملحنا وموزعا للموسيقى التصويرية، وفيلم لظهوره في فيلم "طيارة من ورق" بدور زياد"2003" كما لحن ووزع أيضا الفيلم. كثيرة هي الأفلام التي شارك فيها ممثلاً وملحنا موزعا للتصوير الموسيقى.. كان زياد الرحباني، أسطورة فذّة ملهمة للأجيال الذين يأتون بعده، كان أسطوريا في تشكيل الموسيقية وتحديثها عن السائد، عبقرية جعلت أساطين التلحين في الوطن العربي ينتظرون.! ماذا سيفعل زياد بالموسيقى في المرحلة القادمة. وفاة زياد الرحباني يوم أمس "26 يوليو 2025"، عن عمر ناهز "69" عامًا، كانت صدمة للوسط الثقافي، بعد معاناة مع تدهور حالته الصحية في السنوات الأخيرة. حيث نعته الأوساط الفنية والثقافية العربية، ومؤسسات رسمية وشخصيات عامة على مستوى واسع، مشيدة بإرثه الفني وتأثيره العميق في الموسيقى والمسرح. يتلقى قبلة من عمه الشاعر اللبناني زياد الرحباني بحضور والدته فيروز