في السنوات الأخيرة شهدت المهنة المتحفية تحولاً جوهرياً أعاد تعريف دور» أمين المتحف»، لكن قبل الحديث عن هذا التحول، ثمة التباس أساسي يجب توضيحه، من هو»الأمين» أصلاً؟ وهل هو نفسه «القيّم الفني»؟ اللبس بين «الأمين» (Museum Curator) و»القيّم الفني» (Art Curator) شائع جداً حتى في الأوساط الأكاديمية، لأن الكلمة نفسها Curator تُترجم أحياناً إلى «أمين» وأحياناً أخرى إلى «قيّم فني» حسب نوع المتحف وطبيعة تخصصه. الكلمة Curator أصلها من اللاتينية Curare وتعني «الاعتناء» وهي كلمة عامة وتشمل كل من يتولى العناية بالمجموعات المتحفية أو الفنية معرفياً و فكرياً، لكن معناها يتغير بحسب نوع المؤسسة الثقافية. هذا الاختلاف في الترجمة يعكس فارقاً حقيقياً في طبيعة عمل كل منهما لأن المؤسسة الثقافية هي من ترسم حدود مسؤولياتهما وسياقهما المهني. في المتاحف الفنية (Art Museum) يطلق عادة القيّم الفني (Art Curator) على الشخص الذي يختارالأعمال الفنية للعرض، ويضع المفهوم الجمالي للمعرض (Theme\Concept)، ويتعامل مع الفنانين مباشرة، ويصيغ رؤية فكرية أوفنية للمعارض المعاصرة. ودوره أقرب إلى المصمم الفكري والمعرفي للعرض الفني حيث يحمل رؤية نقدية أو فلسفية. القيّم الفني يبني حواراً بصرياً بين الأعمال، ويطرح أسئلة فلسفية وجمالية، ويخلق تجربة حسيّة تفسيرية. أما في المتاحف التاريخية أو الوطنية أو العلمية، يطلق «الأمين» (Museum Curator) عادة على الشخص الذي يشرف على المقتنيات الأثرية أو التراثية أوالعلمية، ويجري أبحاثاً لتوثيقها وحفظها، ويصمم المعارض بناءً على السياق التاريخي أوالثقافي «وليس الجمالي.» بمعنى أن «الأمين» هو الباحث الحافظ للمعلومة والسياق التاريخي وليس الفنان الذي يخلق التجربة البصرية. مهمته الأساسية تكمن في حماية القصص التاريخية وضمان دقة المعلومات التاريخية وإتاحتها للجمهور بأمانة علمية صارمة. الفرق الجوهري بينهما يكمن في أنّ كل «قيّم فني» هو أمين، لكن ليس كل «أمين» قيّماً فنياً، فالأول يحاور الجمال والفكرة، والثاني يحاور التاريخ والمعرفة. ومع ظهور البيانات المفتوحة والذكاء الاصطناعي لم يعد دور الأمين التقليدي كافياً لوصف مسؤولياته. فالمتاحف التقليدية التي تشرح المعروضات من خلال بطاقات تعريفية ثابتة، أصبحت اليوم تشرح معروضاتها عبر الشاشات التفاعلية والتطبيقات الذكية ببيانات مفتوحة ومتاحة للجميع. ونجد ذلك في تطبيق الجولة الافتراضية للمتحف الوطني السعودي الذي يوفر للزوار صوراً بالغة الدقة للموقع والقاعات والمعروضات بتقنية 360 درجة، مع إمكانية استكشاف وصف القطع المعروضة بلغات متعددة، والاستماع إلى الوسائط السمعية والشروحات في الشاشات الرقمية. كما يقدم متحف اللوفر أبوظبي نموذجاً مشابهاً، حيث يوفر منصة رقمية تربط المعروضات بتاريخها عبر خرائط تفاعلية تقنية متقدمة. بمعنى آخر يمكن للزوار متابعة الوصف القصصي أو التاريخي للقطع أو حتى الاستماع للشروحات صوتياً وذلك عبر تطبيق الكتروني خاص بالمتحف. في النموذج التقليدي نجد أن المعرفة مركزية ومحفوظة داخل المتحف وتُعرض للزوار بتسلسل يحدده «الأمين»، أما اليوم في فالمعلومات أصبحت مفتوحة ومشتركة، فتحوّل دور الأمين من «حافظ للمعرفة» إلى «منسق لمعناها» حيث يربط بين المحتوى والبيانات الرقمية، وبين الجمهور. وهنا يطرح السؤال نفسه كيف يمكن ل»الأمين» إتاحة هذه المعرفة لملايين البشر في أي مكان دون أن تفقد سياقها أو قيمتها العلمية؟ وللإجابة على هذا السؤال، أرى أنه من الواجب على «الأمناء» اليوم الموازنة بين الشفافية الرقمية و حماية المُلكية الفكرية. اليوم يُطلب من «أمين المتحف» فهم أدوات التحليل الرقمي، وإدارة البيانات، وتصميم التجارب التفاعلية، وحتى التعامل مع الذكاء الاصطناعي في تنظيم المعروضات. وهذا يعني أن «الأمين» أصبح جزءاً من فريق متعدد التخصصات يضم مصممين ومبرمجين ومحللي بيانات وليس فقط مؤرخين وفنانين. لذلك يجب أن يؤدي أمين المتحف دور»الأمين الأخلاقي» أيضاً فيوازن بين الانفتاح والمسؤولية. الشفافية مطلوبة لكنها ليست مُطلقة، وهناك حدود يفرضها الإحترام الثقافي، والحساسية الدينية، وحتى الأمن الوطني في بعض الحالات. على سبيل المثال يتطلب تسجيل المخطوطات النادرة رقمياً وحتى المواقع ذات البعد الديني أوالرمزية الثقافية عناية خاصة في طريقة عرضها وشرحها، لأنها مواد تحمل قيمة ثقافية وروحية عميقة لدى المجتمعات مما يستلزم تقديمها ضمن إطار يحترم مكانتها. فعند تسجيل مخطوطة قديمة للقرآن الكريم رقمياً يجب مراعاة أسلوب تقديمها كتجنب قص أجزاء من الأيات، والابتعاد عن المؤثرات البصرية غيرالمناسبة لطبيعة النص، واختيارزوايا تصويرتحافظ على هيبة العمل. كما ينبغي أن تكون الشروحات المصاحبة للعرض دقيقة ومحايدة دون إضافات تفسيرية لا تتناسب مع العرض العلمي. و في بعض الحالات يُفضّل توفير نسخة عالية الدقة للباحثين حفاظاً على الاستخدام المسؤول للمادة العلمية المعروضة. لذلك يواجه «الأمين» اليوم معضلة كيف يكون منفتحاً دون أن يكون متجاوزاً؟ كيف يتيح المعرفة دون أن ينتهك الخصوصية الثقافية؟ في 2019 واجه متحف بروكلين انتقادات حادة بعد نشر صور لمومياوات مصرية بدقة عالية دون مراعاة الحساسية الثقافية المرتبطة بعرض الرفات البشرية، مما دفع المتحف إلى مراجعة سياسات النشر واعتماد معايير تراعي رأي المجتمعات المعنية. وفي المملكة العربية السعودية يأتي بناء المتاحف الجديدة ضمن رؤية 2030 في لحظة فارقة عالمياً، ففي الوقت الذي تحاول فيه المتاحف العريقة حول العالم التخلص من إرث النموذج المتحفي التقليدي لتواكب التطورالرقمي، تجد المتاحف السعودية نفسها أمام خيار جوهري، إمّا أن تبني منظومتها على نماذج تقليدية بدأ العالم يتجاوزها، أو تتوجه مباشره نحو «المستقبل» باعتماد نماذج رقمية متقدمة. هذا الاختيار يؤثرعلى مستقبل التجربة المتحفية في المملكة. ويكمن التحدي الحقيقي في بناء الكوادروالكفاءات القادرة على إدارة هذا التحول وليس في التقنية ذاتها، «فالأمناء السعوديون» قد يواجهون فجوة بين التدريب التقليدي ومتطلبات البيئة الرقمية. ولسد هذا الفراغ تصبح الحاجة ملحّة لتفعيل شراكات بين الجامعات والمتاحف لتطويرأوبناء برامج أكاديمية تجمع بين علم المتاحف والتقنية الرقمية وإدارة البيانات. إلى جانب أهمية إنشاء «مركز وطني للبيانات المتحفية « يضع المعاييرويوحد آليات تبادل المعلومات بين المؤسسات. ورغم أن رقمنة مقتنيات متحفٍ واحد قد يتطلب استثمارتٍ ضخمة، إلا أن قيمة هذا التوجه تكمن في توحيد المعاييروتوفيرمحتوى موثوق يُسهم في البحث والتعليم. هذا التحول يفتح أمام المتاحف السعودية فرصة لإعادة بناء منظومتها المعرفية على أسس رقمية متقدمة. ومع الوقت ستتشكل هوية متحفية سعودية قادرة على صناعة محتوى يمنحها القدرة على أن تسبق العالم بخطوات واضحة.