تمضي المملكة العربية السعودية بثقةٍ في مسارٍ تحوّليٍّ متسارعٍ يعيد تشكيل منظومة الخدمات والإدارة والتنمية. فبعد أن رسّخت مرحلة «التحوّل الرقميّ» حضورها في أغلب مفاصل الحياة اليومية، تدخل بلادنا اليوم مرحلةً أكثر نضجًا هي «التمكين الذكيّ»، حيث تتجاوز التقنية حدود الأتمتة إلى دورٍ أعمق في التحليل والتخطيط وصناعة القرار. لقد أصبح الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات جزءًا من منظومة العمل الوطني في القطاعين العام والخاص، يوجِّه الكفاءة ويراقب الأداء ويُسهم في بناء سياساتٍ قائمةٍ على الأدلة. وهكذا تتكوّن في المملكة تجربةٌ وطنيةٌ حديثة تربط بين التطوّر التقني وجودة الحياة، وتؤكّد أن التقنية ليست هدفًا بحدّ ذاتها، بل وسيلة لتمكين الإنسان وتحقيق التنمية المستدامة. خلال السنوات الماضية، أنجزت المملكة مرحلةَ تأسيسٍ رقميةٍ شاملة، شُيّدت فيها بنيةٌ تحتيةٌ متقدّمة، وتطوّرت المنصّات والخدمات الحكومية لتصبح نموذجًا عالميًا في الكفاءة وسرعة الإنجاز. ووفقًا لتقرير هيئة الحكومة الرقمية لعام 2025 م، بلغ مؤشر نضج التجربة الرقمية نحو 86.71 %، فيما تصدّرت المملكة دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في عدد من مؤشرات الخدمات الرقمية الإقليمية حيث ورد في تقرير الإسكوا لعام 2024 أن المملكة حقّقت معدّل نضج عالياً يبلغ 96 % تقريبًا. وتبرز مبادرات وطنية رائدة مثل «سدايا» و«توكلنا» و«نفاذ» كنماذج حيّة على الانتقال من الرقمنة إلى التمكين الذكيّ الذي يوظّف البيانات لخدمة الإنسان. وما يميّز المرحلة الراهنة هو نضج الرؤية التقنية السعودية التي تنقلنا من رقمنة الإجراءات إلى عقلنة الأداء، ومن التحوّل الرقميّ إلى تمكينٍ ذكيٍّ يعتمد على الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات المتقدمة، في رحلةٍ تقودها رؤية السعودية 2030 بخطى طموحة ومتّزنة. غير أنّ التمكين الذكيّ لا يخلو من التحديات؛ إذ يتطلّب تكاملَ الأنظمة وتوحيدَ البيانات بين الجهات بمزيدٍ من التنسيق والتشريعات المرنة، كما تظلّ حماية البيانات والأمن السيبراني ركيزتين لضمان الثقة والاستدامة، في ظل دورٍ محوريٍّ للهيئة الوطنية للأمن السيبراني وهيئة الحكومة الرقمية. ويبقى العنصر البشريّ التحدي الأهم، فالتقنية مهما بلغت دقّتها تحتاج إلى كوادر وطنية قادرة على تطويرها وقيادتها، وتعزيز الثقة المجتمعية في الأنظمة الذكية يتطلّب تواصلاً مؤسسيًا يرسّخ وعي المواطن بأن الذكاء الاصطناعي شريكٌ للإنسان لا بديلٌ عنه. ولتعظيم أثر هذا التحوّل، تستدعي المرحلة المقبلة توسيع برامج تأهيل القيادات التقنية الذكية، وتعزيز الشراكات البحثية بين الجامعات والقطاعين العام والخاص لتطوير حلولٍ سعوديةٍ مبتكرة في الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، إلى جانب إطلاق مؤشرٍ وطنيٍّ للنضج التقنيّ لقياس التقدّم في مختلف القطاعات، وترسيخ ثقافة «الأمن الاستباقي الذكيّ»؛ أي بناء منظومات حماية تعتمد على التحليل والتنبؤ لا على ردّ الفعل. إن بلادنا اليوم، برؤيةٍ سديدةٍ وقيادةٍ رشيدةٍ، لا تسير نحو المستقبل فحسب، بل تصنعه بوعيٍ واقتدار؛ فمرحلة التمكين الذكيّ تمثّل قمّة مسار التحوّل الوطني ونتاجه الطبيعي، وهي التعبير الأصدق عن نضجٍ تقنيٍّ يستثمر الإنسان قبل الأداة، والفكر قبل البرمجة. وحين يتكامل الذكاء الاصطناعي مع العقل البشري، يصبح مستقبل الوطن أكثر إشراقًا وريادةً واستدامةً، ويغدو الطموح إنجازًا حضاريًّا يرسّخ مكانة المملكة في قلب العالم الرقميّ الذكيّ. * عضو مجلس الشورى