في عالمٍ تتغيّر فيه القواعد بوتيرةٍ متسارعة، تبرز المملكة العربية السعودية كنموذجٍ رائدٍ لما يمكن أن تحقّقه الدول حين تضع الرقمنة في قلب رؤيتها المستقبلية. فمنذ انطلاق رؤية 2030، أصبح التحوّل الرقمي ليس خياراً تقنياً، بل مشروعاً وطنياً شاملاً يسعى إلى بناء اقتصادٍ متنوّعٍ، وحكومةٍ فعّالةٍ، ومجتمعٍ رقمياً مزدهراً. وما تحقق حتى الآن يعكس أن المملكة لم تعد تتحدّث عن التحوّل الرقمي كهدفٍ بعيد، بل تعيشه واقعاً ملموساً في تفاصيل الحياة اليومية. لقد انتقلت المملكة من مرحلة "التحوّل" إلى مرحلة "التمكين"، إذ لم تعد الرقمنة مقتصرة على تحويل المعاملات الورقية إلى إلكترونية، بل باتت فلسفةً جديدة في إدارة الدولة وتقديم الخدمة العامة. ووفقاً لما أعلنته هيئة الحكومة الرقمية فقد بلغ مؤشر نضج التجربة الرقمية 86.7 % لعام 2025، وهي نسبة تُظهر مدى التزام الجهات الحكومية بتحسين جودة الخدمات وتجربة المستفيدين. هذا التقدّم لم يأتِ مصادفةً، بل نتيجة تخطيطٍ طويل المدى وتكاملٍ بين الرؤية والسياسات والتنفيذ. ويبرز تطبيق توكلنا مثالاً على هذا التحوّل العميق. فبعد أن انطلق أثناء جائحة كورونا كأداةٍ لتنظيم الحركة وإدارة التصاريح، تحوّل اليوم إلى منصة وطنية شاملة تقدّم أكثر من 600 خدمة رقمية متنوعة. ووفقاً لما نشرته الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، فإن التطبيق أصبح جزءاً من منظومة الخدمات الحكومية اليومية، بدءاً من الوثائق الرسمية والبطاقات الرقمية، وصولاً إلى المواعيد الحكومية والإشعارات الفورية. ومعه تغيّر مفهوم "المنصة الحكومية" من مجرد واجهة إلكترونية إلى بوابة حياة رقمية متكاملة. وإلى جانبه، يبرز تطبيق أبشر بوصفه أحد أهم مشاريع التحوّل الرقمي، إذ يتيح تنفيذ أكثر من 350 خدمة دون الحاجة إلى مراجعة أي جهة حكومية، بينما يمثل نظام نفاذ نموذجاً للربط الموحد بين الجهات الحكومية والخاصة، حيث يمكن الدخول إلى مختلف المنصّات عبر هويةٍ رقميةٍ واحدة. هذه النماذج لا تقدّم خدمات فقط، بل تُجسّد التحوّل في فلسفة العمل الحكومي نحو تجربة موحّدة وفعّالة للمستخدم. ولا يمكن الحديث عن التحوّل الرقمي دون الإشارة إلى القفزة الكبرى في البنية التحتية الرقمية. فبحسب ما نشرته وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، ارتفعت سعة مراكز البيانات بنسبة تجاوزت 40 % خلال عام 2023، كما وصلت نسبة تغطية شبكة الألياف الضوئية إلى أكثر من 96 % من المناطق الحضرية، مما مهَّد الطريق أمام الخدمات الرقمية المتقدمة والذكاء الاصطناعي. هذه الأرقام تترجم التزام الدولة ببناء بنية تحتية تستوعب المستقبل وتؤسس لاقتصادٍ رقمٍي قادرٍ على النمو. ولأن الرقمنة ليست غاية بحدّ ذاتها، بل وسيلة لتحسين جودة الحياة، فقد انعكس هذا التطوّر على مؤشرات الأداء الحكومية. فبحسب تقرير البنك الدولي لعام 2024، حصدت المملكة المركز الثالث عالمياً في مؤشر نضج الحكومة الرقمية، كما جاءت الأولى على مستوى الشرق الأوسط في مؤشر الخدمات الحكومية الإلكترونية بنسبة نضج قاربت 96 % وفق ما نشرته تقارير إقليمية متخصصة. هذه المؤشرات تعكس أن المملكة تجاوزت مرحلة التأسيس، ودخلت مرحلة القيادة في المشهد الرقمي الإقليمي. لكنّ التقدم السريع لا يخلو من تحدّيات. فوفق دراساتٍ أكاديمية حديثة، ما زال بعض المستخدمين يتعاملون مع الخدمات الرقمية كأدواتٍ أكثر من كونها تجاربٍ إنسانية متكاملة، ما يستدعي مزيداً من الجهد في تصميم الخدمات من منظور تجربة المستخدم، وليس من زاوية تقديم الخدمة فحسب. كما تبقى المهارات الرقمية عاملاً حاسماً في تمكين الأفراد من الاستفادة الكاملة من الرقمنة، خصوصاً مع ارتفاع الطلب على الكفاءات المتخصصة في الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، والأمن السيبراني. وهنا يأتي دور المبادرات الوطنية في التدريب والتأهيل، لضمان أن يكون الإنسان هو محور التطوّر الرقمي لا هامشه. ورغم هذه التحديات، فإن ما تحقق حتى الآن يضع المملكة في موقعٍ متقدّمٍ عالمياً. فبحسب ما نشره مركز الإحصاء السعودي، قدّر حجم الاقتصاد الرقمي في المملكة بنحو 500 مليار ريال، أي ما يقارب 15 % من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقمٌ مرشّح للارتفاع مع توسّع الاستثمارات التقنية ومشاريع المدن الذكية مثل مدينة نيوم والقدية والدرعية. هذا النمو يعكس أن الرقمنة لم تعد مجرد وسيلة لتحسين الخدمة، بل أصبحت محرّكاً حقيقياً للاقتصاد الوطني. ويأتي في سياق هذه المسيرة المباركة تنظيم ملتقى الحكومة الرقمية 2025 الذي تنظّمه هيئة الحكومة الرقمية بمدينة الرياض خلال الفترة 5-6 نوفمبر 2025م، في فندق "جي دبليو ماريوت - الرياض". هذا الملتقى يُعدّ محطة مهمة لتبادل الخبرات، وإطلاق المبادرات، ومناقشة التوجهات المستقبلية، وإعلان نتائج قياس التحول الرقمي والفائزين بجائزة الحكومة الرقمية. حضور هذا الحدث يعكس حرص المملكة على تكريس مكانتها رائدة في المشهد الرقمي العالمي، ويعدّ فرصةً لتوسيع آفاق الشراكات وتعميق مبدأ التمكين الرقمي لكافة الشرائح. وهكذا، تمضي المملكة بثقة واعتزاز نحو مرحلةٍ جديدة من النضج الرقمي، حيث تتحدّ التقنية مع الإنسان لخدمة التنمية، وحيث تتحوّل البيانات إلى قراراتٍ، والخدمات إلى تجاربٍ، والمواطن إلى محورٍ رئيسٍ في معادلة المستقبل. إن ما تحقق ليس موضع "يمكن القول"، بل حقيقةٌ راسخة تؤكد أن المملكة أصبحت في طليعة الدول التي صنعت من الرقمنة قصة نجاح وطنية وعالمية؛ قصةٌ عنوانها الإبداع، وركيزتها الإنسان، وغايتها أن تبقى المملكة في صدارة المشهد الرقمي العالمي بثباتٍ واقتدار.