التحول الرياضي في المملكة اليوم ينسجم بدقة مع رؤية 2030 الفكرة الجوهرية للتحول بناء الإنسان الرياضي قبل البنية الرياضية في زمن تتغير فيه معادلات القوة حول العالم، لم تعد الرياضة مجرد أداة للترفيه أو التنافس، بل أصبحت من أبرز أدوات بناء الصورة الوطنية والاقتصاد المستدام. والمملكة العربية السعودية اليوم تقف عند نقطة تحوّل تاريخية في هذا المجال؛ فهي لا تسعى فقط لأن تكون ضمن دائرة الحضور الرياضي العالمي، بل لتصنع نموذجًا جديدًا لما يمكن أن تكون عليه الرياضة في عصر ما بعد النفط. هذا التحول لا يقوم على شراء العقود ولا على استقطاب النجوم فقط، بل على بناء منظومة فكرية ومعرفية تستثمر في الإنسان أولًا - في العقل قبل القدم، وفي الفكرة قبل الصفقة. إن الإنفاق الكبير الذي شهدته الرياضة السعودية في السنوات الأخيرة، سواء في تطوير الأندية أو استضافة البطولات أو جذب الأسماء العالمية، ليس نهاية المسار، بل بدايته. فالمرحلة القادمة تتطلب تحويل هذا الزخم إلى منظومة إنتاج فكر رياضي قادرة على توليد القيمة بشكل مستدام دون الاعتماد الدائم على الدعم المالي. والمفتاح لذلك هو الاستثمار في «العقول الرياضية» - الإداريين والمخططين والمبتكرين الذين يملكون القدرة على تحويل الرياضة إلى علم وصناعة وإدارة متقدمة. لقد أثبتت التجارب العالمية أن العقود الضخمة لا تصنع نجاحًا دائمًا. فكم من نادٍ أنفق المليارات ولم يحقق سوى شهرة مؤقتة، بينما مؤسسات رياضية صغيرة بنت نجاحها على الفكر والتخطيط والحوكمة والابتكار. هنا تبرز أهمية العقل السعودي الجديد الذي بدأ يفكر بمنطق مختلف؛ رياضة ما بعد النفط لا تقاس بحجم العقود، بل بقدرة الدولة والأندية على إدارة القيمة وتعظيم الأثر. فحين يكون اللاعب هو الاستثمار الوحيد، تكون الرياضة عبئًا ماليًا، لكن حين يتحول الفكر الرياضي نفسه إلى صناعة معرفية تنتج دراسات، وتحليلات، وابتكارات تقنية، وتخريج كفاءات، تصبح الرياضة مصدرًا للدخل الوطني لا بابًا للإنفاق. الكل شريك في التحول إن التحول الرياضي في المملكة اليوم ينسجم بدقة مع رؤية 2030 التي وضعت الإنسان في قلب كل مشروع. فالمشجع، والإداري، والمدرب، والمستثمر، كلهم شركاء في بناء هذا التحول النوعي. والهدف النهائي هو أن تصبح الرياضة السعودية مركزًا فكريًا وتطبيقيًا يُصدّر المعرفة كما يصدّر البطولات. وهذا لن يتحقق إلا إذا أصبح لكل نادٍ عقل إداري يُفكّر كما يفكّر المستثمر، لا كما يتصرّف المتحمس. يجب أن يتحول النادي إلى مؤسسة اقتصادية تُدار بالتحليل والحوكمة والابتكار، لا بالعواطف وردود الفعل. ولأن الرياضة جزء من الهوية الوطنية، فإن تطويرها فكريًا لا يعني فقط تحسين الأداء الإداري، بل إعادة صياغة العلاقة بين الرياضة والمجتمع. فكما أن النفط كان في الماضي هو الوقود المادي للتنمية، فإن العقول الرياضية الواعية هي وقود المستقبل. من هنا تنبع الفكرة الجوهرية لهذا التحول: بناء الإنسان الرياضي قبل البنية الرياضية. فالملاعب مهما بلغت فخامتها لا تصنع التفوق ما لم يكن خلفها فكر إداري يقودها، والنجوم مهما بلغت شهرتهم لا يصنعون التاريخ ما لم يعمل خلفهم جهاز إداري قادر على استثمارهم وتوجيههم بشكل مستدام. اقتصاد رياضي قائم على المعرفة إن العالم اليوم يتجه نحو اقتصاد رياضي قائم على المعرفة، حيث أصبحت البيانات والتحليل والابتكار التقني جزءًا من منظومة اتخاذ القرار. الأندية الذكية هي التي تعرف كيف تستفيد من الذكاء الاصطناعي، وكيف تستخدم علم البيانات لتحسين الأداء والتسويق والإدارة. في هذا الإطار، تملك المملكة فرصة نادرة لتأسيس مدارس فكرية في الإدارة الرياضية الحديثة، وربطها بالجامعات ومراكز البحث والقطاع الخاص، لتتحول إلى منظومة فكر واحتراف تنتج قادة المستقبل الرياضيين. فبدلًا من استيراد العقول الإدارية من الخارج، يمكن تصدير الفكر الرياضي السعودي نفسه كمنتج نوعي للعالم العربي والإقليمي. الاستثمار في العقول يعني بناء بيئة تمكّن الكفاءات الوطنية من الإبداع والمشاركة في اتخاذ القرار. وهذا لا يتحقق إلا من خلال توطين المعرفة الرياضية، وإعطاء الإداريين الشباب فرصًا حقيقية للتخطيط والتجريب والتطوير. فالمملكة تملك من الطاقات والكوادر ما يجعلها تقود العالم الرياضي العربي، لكنها بحاجة إلى تحويل تلك الطاقات من "موهبة" إلى "منهج". وحين تصبح المعرفة جزءًا من المنظومة الرياضية، فإن العقود ستأتي تبعًا لا هدفًا. لأن الفكر القوي هو الذي يصنع العقود الكبيرة، وليس العكس. رؤية شاملة إن مرحلة ما بعد النفط ليست شعارًا اقتصاديًا فحسب، بل رؤية شاملة لإعادة تعريف معنى القيمة في كل قطاع. والرياضة جزء أساسي من هذه الرؤية. فالقيمة في الرياضة السعودية لن تُقاس بعدد النجوم الأجانب ولا بحجم العقود، بل بقدرتها على خلق فكر رياضي عالمي بملامح سعودية. هذا الفكر هو ما سيضمن أن يظل الإنجاز مستمرًا حتى بعد أن تتغير الظروف أو تقل الموارد. فالعقود تُشترى، أما العقول فتبني. والرياضة السعودية اليوم أمام فرصة تاريخية لتثبت أن المستقبل ليس للأغلى سعرًا، بل للأعمق فكرًا، وأن الاستثمار الحقيقي يبدأ من الداخل من الإنسان، من العقل الذي يدير لا من النجم الذي يلمع. * رئيس مجلس إدارة نادي الدرعية سابقاً د. خالد بن سعد الحبشان*