آن الأوان أن تتحول الجامعات السعودية، ومراكز البحث، وأقسام الإعلام، إلى مصانع ترجمة، ومختبرات حضارية، ومجالس فكرية تجمع بين المؤلف والمترجم، بين اللغوي والمفكر، في مشروع وطني شامل لنقل المعارف العالمية إلى الداخل، ونقل الأفكار السعودية إلى الخارج.. فالترجمة بهذا المعنى ليست خيارًا نخبويًا، بل أداة من أدوات السيادة الثقافية، وواحدة من روافع القوة الناعمة.. في ظل التحولات الكبرى التي تعيشها المملكة العربية السعودية على الصعيد الثقافي والسياحي والاجتماعي والاقتصادي؛ تتصاعد الحاجة الملحة لتوسيع أفق التواصل مع العالم، لا عبر البعثات الدبلوماسية، أو الاتفاقيات التجارية وحسب؛ بل من خلال أكثر أدوات التأثير عمقًا. إنّ الترجمة ليست فعلًا لغويًا صرفًا؛ بل هي جسر حضاري، وعمل فلسفي، ونداء ثقافي يرسّخ موقع الأمم في الوعي الإنساني العام، ويجعلها شريكًا لا تابعًا، ومصدرًا لا مجرد مستهلك. غير أن المشهد المحلي للترجمة رغم مبادرات مؤسسية واعدة؛ ما يزال يفتقر إلى الحضور السعودي المؤثر، خصوصًا في الحقول المتخصصة كالإعلام والاتصال، وهي من أكثر المجالات التصاقًا بالوعي العام، وأكثرها حاجة لإعادة قراءة خطابها من زوايا عالمية، فرغم توافر كوادر سعودية متمكنة لغويًا ومتعمقة معرفيًا في تخصصاتها، إلا أن حضورهم في ساحة الترجمة شبه غائب، وكأنّ الفعل الثقافي الكبير هذا حكرٌ على مترجمين عرب خارج السياق المحلي؛ يترجمون بعيون غيرنا، ويصوغون لغتنا بفهم ليس بالضرورة منبثقًا من بيئتنا وسياقنا. إن الكتب الإعلامية؛ مثلًا تُترجم من لغات أجنبية إلى العربية بأيدٍ غير سعودية، وغالبًا ما تفقد روحها الثقافية عند انتقالها إلى بيئة لغوية جديدة. وحين نكتفي بقراءة العالم من خلال فهْم غيرنا، فإننا نُقحم وعينا في قوالب ليست لنا، ونصوغ خطابنا الإعلامي على أساسات مستوردة لم نختبر جدواها؛ في المقابل لا نكاد نجد جهودًا سعودية بارزة لترجمة الكتب المحلية ذات القيمة الإعلامية أو الفكرية أو الاجتماعية إلى اللغات الأجنبية، لتعريف العالم بالمنجز الثقافي والفكري السعودي المتصاعد، وكأن رسالتنا مكتوبة بالحبر المحلي، لكنها غائبة عن الورق العالمي. فأين الأساتذة السعوديون في الإعلام، وأين الأكاديميون والممارسون الذين يملكون الأدوات اللغوية والمعرفية، من هذا الميدان الحيوي؟ لماذا لا نرى كتبًا سعودية مترجمة إلى الإسبانية، أو الصينية، أو الفرنسية، تتحدث عن تجربة الإعلام المحلي، أو عن التحولات في الاتصال السياسي والاجتماعي، أو عن النموذج السعودي في الإعلام الرقمي والتأثير الجماهيري؟ ولماذا يندر أن نجد كتابًا أجنبيًا حديثًا ومهمًا في الإعلام أو الثقافة أو الفلسفة، تُرجم إلى العربية على يد مختص سعودي يستوعب لغة النص وسياقه؟ إن هذه الهوة لا تفسّر بنقص المهارات، فالمملكة اليوم تعج بالكفاءات العلمية واللغوية في مختلف التخصصات، ولا تبرّر بغياب الجهات الداعمة، فقد أطلقت وزارة الثقافة مبادرات نوعية في الترجمة، وأسست هيئة الأدب والنشر والترجمة برامج محفزة، كما أن رؤية السعودية 2030 وضعت الثقافة والترجمة ضمن أولوياتها الاستراتيجية. بل التفسير الأرجح يكمن في غياب الوعي الجماعي بأهمية الترجمة كفعل وطني لا يقل أهمية عن الخطاب الإعلامي أو العمل الأكاديمي أو الإنتاج الفني، فالترجمة ليست رفاهًا معرفيًا، بل ضرورة سيادية. إنّ النخبة المثقفة، ولا سيما المتخصصين في الإعلام والفكر والعلوم الاجتماعية، مدعوة إلى اقتحام هذا الحقل بوعي ومسؤولية، لا نريد فقط مترجمين يتعاملون مع النصوص كأنها مواد لغوية باردة، بل مثقفين سعوديين يترجمون بروح الباحث والمبدع، يستحضرون أبعاد النص ومآلاته، ويعيدون صياغته بما يتناسب مع عقل المتلقي العربي أو الأجنبي. كما أننا بحاجة ماسّة إلى تصدير كتبنا، ورواياتنا، وقصصنا السامية، وتاريخنا، ومفاهيمنا، وتجاربنا الميدانية، إلى العالم، بلغاته ووسائطه، لأن المعركة الثقافية اليوم لا تُخاض فقط داخل الحدود، بل على صفحات الكتب والمجلات والدوريات والمنصات العالمية. وقد آن الأوان أن تتحول الجامعات السعودية، ومراكز البحث، وأقسام الإعلام، إلى مصانع ترجمة، ومختبرات حضارية، ومجالس فكرية تجمع بين المؤلف والمترجم، بين اللغوي والمفكر، في مشروع وطني شامل لنقل المعارف العالمية إلى الداخل، ونقل الأفكار السعودية إلى الخارج. فالترجمة بهذا المعنى ليست خيارًا نخبويًا، بل أداة من أدوات السيادة الثقافية، وواحدة من روافع القوة الناعمة التي لا يمكن لدولة صاعدة أن تغفل عنها. ويبقى القول: عندما تتعاظم القوة الرمزية للمحتوى، تصبح الترجمة أداة للمشاركة لا للملاحقة، ومنصة للخطاب لا مجرد مرآة، إنها أحد تجليات الهوية النشطة التي لا تكتفي بالتلقي، بل تكتب وتُقرأ، تُفَسِّر وتُفَسَّر. من هنا، فإن الدعوة موجهة لكل من يملك لغةً ومعرفةً، أن يخطو نحو هذا الدور الحضاري، بأن يترجم للناس ما ينفعهم، ويترجم عنهم ما يعبر عنهم، ولعل الدعوة تكون بداية لنقلة نوعية، تضع المترجم السعودي في مكانه الطبيعي؛ حلقة وصل بين ثقافة وطن ينهض، وعالم لا ينتظر.