قبل أن تكون الأوطان حدوداً على الخرائط، كانت أمثالاً تسري، وأغنياتٍ تُنشد، وقصائدَ تُحفظ. والشعراء الحقيقيون آباء القصائد ليسوا أولئك الذين يتقنون الوزن والقافية، بل هم من يصبح لسانهم مرآةً لأرواح أوطانهم؛ كائناتٌ وُلدت من رحم الأرض، لتكون صوتها الناطق، وذاكرتها الحية، وسِفرها المفتوح على الأبدية. في أصواتهم، يتردد صدى حوافر الخيل، وصليل السيوف، ورائحة البواريد، وهمس الأجداد حول مواقد الليل، وصلوات الأمهات المجبولة بالحب والدعاء. ومن قلب «سراة زهران»، حيث تتوضأ القمم بماء السحاب، وحيث لكل جبل حكاية، ولكل وادٍ أغنية، انبثق صوتٌ لم يكن كغيره من الأصوات؛ صوتٌ يحمل صلابة الجبل وعذوبة المطر، لم يأتِ عبدالواحد إلى عالم الشعر كضيفٍ، بل كابنٍ بارٍّ، ليروي للعالم حكايتها بلغةٍ يفهمها القلب قبل الأذن، وليس مجرد شاعرٍ يكتب عن زهران، بل هو أحد عناصر هويتها، وبمثابة مكتبة حية تحمل أسماء القرى وأناشيد الذُرى وحكايات الورى. في قرية «الدركة»، فَتَحَ عبدالواحد عينيه على عالمٍ كانت فيه القصيدة هي الهواء الذي يتنفسه الناس، وُلد في بيتٍ كان الشعر فيه خبزاً يومياً، فوالده الشاعر سعود لم يورثه اسماً فحسب، بل ورّثه سِرَّ الكلمة ومفتاح بوحها. في تلك المجالس المفتوحة على الحكمة والشهامة، تعلم الإيقاع قبل أن يتعلم الحرف، وشرب من بلاغة الكبار قبل أن يرتوي من حبر الكتب. علمته الجبال الشاهقة ثبات المعنى وشموخ المبدأ، وعلمه السيل المنحدر قوة الكلمة وانسيابها، وأهدته الريح أسرار اللحن الذي يسري في الروح بلا استئذان، فجاء شعره لاحقاً صورةً لتلك الطبيعة البكر: قوياً، نقياً، غزيراً. لكن قصة عبدالواحد لم تكتمل فصولها في ميادين الشعر وحدها، فبينما كان صوته يجلجل في ساحات العرضة، كان عقله يسافر في رحلة معرفية عميقة، تُوّجت بحصوله على درجة الدكتوراة في الإدارة التربوية، هذا العناقُ النادر بين وهج الموهبة ونور المعرفة، صهر شخصيته في بوتقة الفرادة، لم يعد الشعر لديه مجرد فيضٍ من المشاعر، بل أصبح مشروعاً فكرياً ورسالة وعي، تحولت قصائده إلى جسورٍ ممتدة بين القبيلة والمجتمع، تحمل في ظاهرها بساطة اللفظ وجمال الصورة، وتخفي في باطنها عمق الفيلسوف وجرأة الباحث، صار يطرح قضايا مجتمعه الكبرى بنفس الدقة التي يكتب بها أطروحته العلمية، لكن بطروق الوجدان لا طرائق الأكاديميات. في فن العرضة، كان عبدالواحد إمبراطوراً متوجاً، حين يرفع صوته، يتحول الميدان إلى مسرح أساطير، حضوره يطرز الأفراح، ويحول المناسبات العادية إلى ذكريات لا تمحى، كم من قبيلة أصبح شعار فخرها بيت لعبدالواحد، كم من عريسٍ غيّر موعد زفافه ليشهد عبدالواحد على قلبه! لقد حوّل العرضة من مجرد فن محلي إلى لغة إنسانية عالية، حملها من مجالسها المؤقتة، ومنحها أجنحةً رقمية حلّقت في كل الشبكات الاجتماعية والوسائط الرقمية، لتصل إلى قلوب الملايين في الدنيا، أثبت أن التراث ليس شيئاً جامداً في المتاحف والذاكرة، بل هو كائن حي قادر على التنفس والتجدد، إذا وجد الروح التي تحمله، فكان هو الجسر الحي بين أصالة الأجداد وحداثة الأحفاد. لم يسجن عبدالواحد قصيدته داخل حدود القبيلة أو المنطقة، لقد انطلق من الخاص ليصل إلى العام، ومن المحلي ليلامس الإنساني بكل أبعاده، كان في الحقيقة يطرح أسئلة وجودية؛ فشعره ليس مجرد كلام موزون، بل هو مقاومة الجمال ضد القبح، وصرخة ضمير في وجه كل زيف، كان يثبت أن أصدق الشعر هو ما ينبثق من ألم حقيقي، وهمٍّ أصيل. يبقى صوته دليلاً على أن الشاعر الحقيقي هو ضمير أمته، وأن القصيدة حين تكون صادقة، فإنها لا تموت أبداً، بل تظل تتردد في الآفاق، كنجمةٍ أبدية تهدي الحائرين في كل مكان والراغبين في كل زمان. السؤال الكبير! كيف صنع عبدالواحد هذه المفارقة العجيبة حين أبطل تهمة غرور الشاعر في الوقت الذي كان يصعد فيه بالشعر الشعبي عالياً؟ السر يكمن في أنه لم يجعل من الشعر وسيلة لتمجيد ذاته، بل جعل من ذاته وسيلة لخدمة الشعر، فبينما كان يرتقي بالقصيدة الشعبية إلى آفاق لم تبلغها من قبل، ويهبها قوةً وجمالاً، كانت روحه تزداد تواضعًا لأنه رأى نفسه خادمًا لهذا الفن العظيم لا سيدًا عليه، لقد حمل القصيدة على كتفيه لترتفع، ولم يمتطِها ليرتفع هو، وبهذا، تحوّل كل نجاحٍ له إلى دليل على عظمة الشعر لا على غرور الشاعر. وإذا قال التشيلي نيرودا: «إني كتبت الشعر لأني أردت أن أكتب تاريخ بلدي بقلبي»، فقد فعلها أبو متعب، وإن قال هوغو الفرنسي إن «الشاعر هو المترجم الأعظم للطبيعة»، فقد أنجزها الدكتور. وإذا اعترف جبران بأن «الشاعر كالشجرة لا يملك ثماره بل يهبها للناس»، فقد أثبتها ابن سعود، وإذا غنى طاغور الهندي أن «الشاعر يقطف من أبدية الجمال ليزرعها في قلب الزمان»، فقد أكدها ابن الدركة. وإذا قال أرسطو الإغريقي إن «الشاعر أعظم من المؤرخ، لأن المؤرخ يصف ما كان، ولكن الشاعر يصف ما ينبغي أن يكون»، فقد حققها عبدالواحد. وهكذا، لم يكتب عبدالواحد قصيدة، بل صار هو نفسه قصيدة خالدة في ذاكرة وطنه، وإلى الأبد. الشاعر عبدالواحد الزهراني