منذ أن عرف الإنسان معنى الانتماء، كان الوطن القصيدة الأولى التي تسكن وجدانه قبل أن يسكن البيوت والمدن، فالوطن ليس مجرد جغرافيا أو حدود مرسومة على الخرائط، بل هو ذاكرة ممتدة في الدماء، وأغنية لا تتوقف على الشفاه، ولأن العربي ابن اللغة التي تستطيع أن تجسد هذا الحب الفطري العميق دائما، اختار الشعر ليكون الأصدق والأبقى، لأنه وحده القادر على أن يمنح الوطن ملامح الحبيبة، وهيئة الأم، وروح الأبدية، فالشعر بطبيعته لغة شعورية، تتسع لتجعل من الوطن كيانًا حيًّا، لا يقتصر على الأرض بل يمتد إلى الروح، والشاعر حين يكتب عن وطنه، لا يكتفي بوصف الجبال والسهول والبحار ولا حتى المدن ومشاعل النمو فيها، بل يضفي عليها حياة جديدة، فيجعلها رموزًا للكرامة، وأصداءً للذاكرة، وصورًا للحلم الجمعي، ومن هنا جاء قول الكثيرين إن الوطن لا يكتمل إلا حين يُكتب شعرًا، وفي التجربة الشعرية السعودية، يحتل الوطن موقعًا مركزيًا، قدّمه شعراؤنا دائما بمختلف مدارسهم، وعلى اتساع لغتهم ولهجاتهم ، كمشروع ثابت وخالد للهوية الثقافية، فها هو الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن وقد تجلى الوطن في قصائده بصور متعددة تبدأ بالحب والعشق وتنتهي به، اذ امتلك في كل قصائده القدرة على تحويل الوطن إلى محبوب أبدي، تتجاوز العلاقة به حدود اللحظة لتصبح ذاكرة أجيال، فالوطن عنده لم يكن رمزًا سياسيًا فحسب، بل حبيبة يُخاطبها القلب قبل اللسان، وليس الأمير الراحل بدر بن عبد المحسن وحده من جعل الوطن قصيدة لا تنتهي، فقد جسّد الشاعر الراحل غازي القصيبي هذا الحب في قصائد عدة حملت لغة مشحونة بالوفاء، وارتبطت بمراحل مفصلية في تاريخ المملكة، أما الشاعر محمد الثبيتي، فقد جعل من الأرض السعودية فضاءً أسطوريًا يمزج بين الصحراء والإنسان، فكانت قصيدته الشهيرة التغريبة مثالًا على كيفية صياغة الوطن كرحلة أبدية في الذاكرة، فالثبيتي لم يرَ في الصحراء مجرد فراغ ممتد، بل ذاكرة كبرى تختزن أجيالًا من التضحية والعطاء. ولعلّ أهم مايتميز به الشعر الوطني السعودي هو قدرته على أن يجمع بين التعبير الفردي والهمّ الجماعي، فالشاعر يكتب بحس شخصي، لكن صوته يتحول إلى لسان حال المجتمع كله، وحين تتغنّى الأجيال بقصائد وطنية مغنّاة، فإنها لا تستعيد لحظة كتابة القصيدة، بل تخلق بها حاضرًا متجدّدًا، ولهذا ظلّت قصائد مثل "فوق هام السحب" للأمير بدر بن عبد المحسن خالدة لأنها أصبحت جزءًا من ذاكرة الناس اليومية، تتجدد مع كل مناسبة وطنية وكأنها كُتبت للتو. وأخيرا يمكننا القول أن الوطن لا يشيخ ولا تنتهي قصائده، فما دام هناك قلب ينبض بحب هذه الأرض، ستظل القصيدة تُكتب من جديد، كل جيل يأتي ويضيف سطرًا، كل شاعر يضع بيتًا جديدًا في نص مفتوح على الأبدية، وحين ننظر إلى الشعر السعودي، نرى أن الوطن لم يكن موضوعًا طارئًا، بل كان دائم الحضور، يتشكل بصور مختلفة: مرةً كأم، ومرةً كعاشقة، ومرةً كنعمة أنعم الله يها علينا، فالوطن ليس جملة في كتاب التاريخ، بل هو نشيد ممتد في قلوب الشعراء، يتردد صداه في وجدان الشعب، ولهذا سيبقى الوطن القصيدة التي تتوارثها الأجيال، قصيدة لا تنتهي، لأنها مكتوبة بحبر الانتماء.