يشهد العالم اليوم تحولا غير مسبوق في مسار التعلم حيث لم يعد مجرّد عملية تلق للمعرفة، بل أصبح منظومة لصناعة الإنسان القادر على قيادة مجتمعه نحو الأثر الإيجابي. وأصبح السؤال الرئيس كيف يمكن لنا أن نحافظ على إنسانية التعلم في عصرٍ أصبح فيه الذكاء الاصطناعي حاضرًا في كل تفاصيل الحياة، ولذا فقد برزت الحاجة إلى إعادة تعريف التعلم، كونه أصبح قوة اجتماعية قادرة على بناء الوعي، وتحفيز الابتكار، وتحقيق التنمية المستدامة. وهنا تتقاطع قوتان ساهمت في تشكيل ملامح مستقبل التعلم: الذكاء الاصطناعي الاجتماعي والذي يسعى إلى فهم الإنسان، وريادة الأعمال الاجتماعية التي تجعل من الابتكار فعلًا أخلاقيًا ذا أثر. فحين يلتقيان يولدان نوعًا فريدا من أشكال التعلم العصري: تعلم يرى التقنية كوسيلة للفهم، والابتكار كأداة للأثر. ولقد أصبحا ركيزتين في بناء هذه المنظومة الحديثة التي تبني على أساس التكاملية والتبادلية. وبتفسير آخر فإن الذكاء الاصطناعي الاجتماعي يُمثّل وجه التقنية الذي يفهم الإنسان ويقرأ تفاعلاته، ويستجيب لحالته الشعورية، بينما تعزز ريادة الأعمال الاجتماعية الوجه القيمي للابتكار بحيث تُعيد ربط التعلم بالمسؤولية، وتحويل الفكرة إلى مبادرة، والمبادرة إلى أثر مجتمعي. ولذا فإن عددا من المراكز العالمية المختصة تتفق على أن التعلّم المستقبلي سيكون قائما على المشاركة والابتكار وصناعة الأثر. فمركز الابتكار الاجتماعي بجامعة ستانفورد مثلًا يرى أن التعلّم يجب أن يُدار بعقل ريادي اجتماعي يربط بين حلّ المشكلات وتحقيق العدالة الاجتماعية، بينما في مركز سكول للابتكار الاجتماعي بجامعة أكسفورد فتقدّم الريادة الاجتماعية كمنهجٍ لتطوير الأنظمة لا كأنشطة مؤقتة. بالمقابل فإن الذكاء الاصطناعي الاجتماعي يحاول فهم الإنسان قبل أن يحلله حسب التقرير الصادر من منتدى الاقتصاد العالمي لعام 2025 (AI in Action: Beyond Experimentation to Transform Industry). كما يمكن للأنظمة الذكية أن تلتقط تعابير الوجه، ونبرة الصوت، وإيقاع الكتابة، لتتعرف على حالته النفسية وآلية التكيف معها، مع إمكانية ملاحظ علامات التشتت أو القلق. وفي ضوء التحولات الوطنية الكبرى التي تشهدها المملكة ضمن رؤية 2030، يتبلور اتجاه استراتيجي رائد نحو تطوير منظومة تعليمية قائمة على الذكاء الاصطناعي الاجتماعي وريادة الأعمال الاجتماعية التعليمية، بوصفها أحد أهم المسارات الداعمة لبناء مجتمع معرفي مُمكَّن يوازن بين التقنية والإنسان، وبين الابتكار والمسؤولية المجتمعية. وقد أصبحت هذه المنظومة اليوم إحدى الركائز الجوهرية في تحقيق التحوّل نحو التعلّم من أجل الأثر، وتحقيق التنمية المستدامة. ونشهد في المملكة جهودًا مؤسسية متكاملة تقودها جهات وطنية متعددة وعلى رأسها وزارة التعليم في تناغمٍ واضح يعكس نضج الرؤية وتكامل الأدوار. أما على صعيد ريادة الأعمال الاجتماعية التعليمية فقد برزت مبادرات نوعية تسهم في تحويل الأفكار التعليمية إلى مشروعات وطنية ذات أثر اجتماعي مستدام، والتي تهدف إلى تمكين الشباب من تحويل مبادراتهم التعليمية إلى مشروعات ريادية تحاكي احتياجات المجتمع، وتُسهم في بناء اقتصاد معرفي قائم على القيم وتقديم الحلول النوعية. ولتمكين هذه الرؤية بشكل أوسع جاء الاقتراح بإنشاء إطار محلي للتعلّم الذكي الاجتماعي الذي يمكن أن يقوم على أربعة محاور مترابطة: أولها التمكين المؤسسي عبر إدماج مفاهيم الذكاء الاصطناعي الاجتماعي وربط مؤشرات التعليم بمؤشرات الأثر المجتمعي ، وثانيها التمكين المهني من خلال إعداد القادة ليصبحوا ميسّرين للتعلّم القيمي والابتكار الاجتماعي، أما التمكين المجتمعي فيرتكز حول إشراك القطاعين غير الربحي والخاص في تبنّي المشاريع التعليمية ذات الأثر الاجتماعي، وأخيرا التمكين المعرفي عبر تأسيس المختبر الوطني للتعلّم الذكي الاجتماعي ليكون منصة وطنية للبحث والتطبيق. إن هذا الإطار المقترح برأيي يمثل أحد الممكنات المساهمة في تجسيد رؤية 2030 المتمثلة ببناء وطن طموح واقتصاد مزدهر ومجتمع حيوي. ويمكن لهذا الإطار أن يتضمن بناء مؤشر الأثر الاجتماعي الرقمي الوطني للتعلم، الذي يمثل باعتقادي خطوة استراتيجية لتقييم العلاقة بين المعرفة والسلوك الاجتماعي، ومستوى تنمية مهارات القيادة والمسؤولية.