قصص الحلم والنجاح.. المقيمون شركاء في التنمية لم يعد وجود المقيمون في المملكة العربية السعودية مسألة اقتصادية بحتة أو ملفًا إداريًا مرتبطًا بسوق العمل، ففي السنوات الأخيرة، ومع تسارع تنفيذ مستهدفات رؤية السعودية 2030 وبرامج جودة الحياة، بدأت المملكة في تبني خطاب جديد وواضح بأن المقيمين ليسوا ضيوفًا مؤقتين فحسب، بل جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للبلد. وهذا التحول تجسّد بشكل علني في مبادرة «تعزيز التواصل مع المقيمين» التي أطلقتها وزارة الإعلام السعودية بالشراكة مع الهيئة العامة للترفيه قبل عام من الآن، في منتزه السويدي بالرياض، تحت شعار «الانسجام العالمي»، وقد صُممت المبادرة لتسليط الضوء على واقع حياة المقيمين في المملكة على المستوى المهني، العائلي، الاجتماعي والترفيهي، وإبراز مساهماتهم في الاقتصاد الوطني وقصص نجاحهم، وكذلك توثيق درجة اندماجهم في المجتمع السعودي. والأهم أنها ليست مجرد تغطية إعلامية لقصص جميلة، بل مسار اتصالي منظم، يتضمن فعاليات ميدانية، منصات ثقافية، لقاءات مع الجاليات، وحضور دبلوماسي يمثل الدول المصدّرة للعمالة والمهارات إلى المملكة. وتحولت المبادرة من «مهرجان تعارف» إلى «إعلان سياسي-اجتماعي» غير مباشر، فالمملكة العربية السعودية ترى كل هذه الثقافات جزءًا من صورتها الحديثة، وصورة العاصمة الرياض خاصة، كمدينة عالمية مفتوحة ومتعددة الجنسيات تتجاوز دورها كعاصمة إدارية إلى كونها ساحة مدنية وإنسانية. «بعد إنساني» والمبادرة، خُصصت ضمن فعاليات في موسم الرياض لتمثيل ثقافات العديد من الجاليات المقيمة، من الفلبين والهند وباكستان وإندونيسيا إلى السودان واليمن ومصر ولبنان وسوريا وبنغلاديش والأردن. وكل جالية حظيت بيوم مخصص تستعرض فيه أكلاتها الشعبية، موسيقاها، رقصاتها الفولكلورية، ملابسها التقليدية، وحرفها اليدوية، مع مشاركة من المواطنين السعوديين والمقيمين على حد سواء. إذاً نحن لا نتحدث عن احتفالية للمغتربين معزولة في الهامش، بل عن تعميد علني للتنوع باعتباره جزءًا من المشهد الثقافي الرسمي لمدينة سعودية كبرى، وتحديدًا ضمن موسم ترفيهي أصبح نفسه رمزًا لانفتاح المملكة دوليًا وهو موسم الرياض. واللافت في الخطاب المرافق للمبادرة أنه يبتعد عن اللغة التقليدية التي تحصر المقيم في دوره الوظيفي (طبيب، مهندس، عامل...)، ويتبنّى لغة تُظهر الإنسان الكامل، حياته العائلية، أوقاته الترفيهية، أمانه الاجتماعي، مشاركة أبنائه في المدارس والأنشطة، وحتى قصص الحلم والنجاح داخل المملكة. ووزارة الإعلام تحدثت عن رواية قصص النجاح للمقيمين وإبراز اندماجهم الثقافي والاجتماعي، أي الاعتراف العلني بأن المقيمين يساهمون ليس فقط في الاقتصاد، بل في تشكيل البيئة الاجتماعية نفسها. وفي تصريحات لمقيمين شاركوا في الفعاليات في حيتها، جرى التأكيد على شعور الاستقرار والبيت الثاني داخل المملكة، وهو خطاب وجد طريقه إلى التغطية الإعلامية العربية والدولية، ويعكس فكرة الأمان الاجتماعي والانتماء للمكان، لا مجرد الوجود المؤقت فيه. وهذا التحول اللغوي مهم صحفيًا، حين تنتقل دولة ما من وصف المقيم كعامل أجنبي إلى وصفه كجزء من حياتنا اليومية، فهذا يعني أنها تبني سردية جديدة عن نفسها أمام الداخل والخارج. واعتبار الانفتاح كقيمة وطنية، وليس فقط كعامل جذب اقتصادي ومن زاوية أوسع، فالتواصل مع المقيمين لم يعد يُقدَّم فقط على أنه ضرورة اقتصادية، بل كجزء من جودة الحياة لجميع سكان المملكة، سعوديين وغير سعوديين. «مجتمع متنوع» كما أن برنامج جودة الحياة -أحد برامج رؤية السعودية 2030- يعرّف نفسه على أنه إطار لتمكين الثقافة، الترفيه، الرياضة والسياحة من الازدهار كي يعيش كل من في المملكة حياة أفضل وأكثر ثراءً. وهذا التعريف يضمّ المقيم جنبًا إلى جنب مع المواطن. أي أن جودة الحياة تُعامل بوصفها «حق مدني معيشي» لجميع من يقيمون في المملكة، وليس امتيازًا حصريًا للمواطن فقط ، والمملكة اليوم مجتمع متنوع بصورة استثنائية. والتقديرات السكانية الحديثة تضع عدد السكان داخل المملكة عند نحو 36.96 مليون نسمة في مايو 2025، بعد أن كان 32.12 مليون فقط في تعداد 2022، مع نسبة عالية من غير السعوديين داخل هذا الإجمالي. وتشير مصادر رسمية ودولية إلى أن غير السعوديين يشكلون أكثر من 40 ٪ من السكان في المملكة، وأن سوق العمل نفسه (خصوصًا في قطاعات الصحة، الخدمات، المقاولات، الضيافة والتقنية) يعتمد على الكفاءات المقيمة. هذا يعني أن الحديث عن التواصل مع المقيمين لم يعد ملفًا جانبياً يخص وزارة الموارد البشرية أو الإقامات النظامية؛ بل أصبح حديثًا عن حياة نحو أربعة من كل عشرة أشخاص يعيشون فعليًا في البلد، يذهبون إلى المدارس، والمستشفيات، والحدائق، والفعاليات، ويصنعون اقتصادها اليومي. من هنا يمكن فهم لماذا جرى إطلاق مبادرة «الانسجام العالمي» بمرافقة حضور رسمي ودبلوماسي، وليس كفعالية هامشية. إنها إقرار ديموغرافي بأن هؤلاء السكان ليسوا ظاهرة ثانوية بل جزء من الواقع السعودي الحديث، وأن دمجهم اجتماعيًا وثقافيًا يخدم الاستقرار الداخلي والسمعة الدولية للبلد في الوقت نفسه. «بيئة تعدّدية» واندرجت المبادرة كجزء من برنامج جودة الحياة الذي يسعى إلى تحسين مستوى المعيشة للمواطنين والمقيمين في المملكة، وتعزيز فرص الانخراط الثقافي والاجتماعي. وكانت أهداف المبادرة: تسليط الضوء على جوانب مختلفة من حياة المقيمين في المملكة - المهنية، العائلية، الاجتماعية، والترفيهية - وكيف تمكّنوا من الاندماج والمساهمة. وإظهار التنوع الثقافي للمقيمين من جنسيات متعددة، وإبراز القيمة التي تجلبها هذه الثقافات للمجتمع السعودي. وتعزيز شعور الانتماء والتقدير للمقيمين باعتبارهم شركاء في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وليس مجرد عناصر مؤقتة. ودعم جهود الحكومة والقطاع الخاص في تحسين جودة الحياة في المدن السعودية، من خلال تعزيز التبادل الثقافي والترفيهي. وقد حازت الفعالية على إعجاب عالمي، فمثلا من جانب العلاقات الدولية، قالت وسائل الإعلام الهندية إن المبادرة تُعبّر عن «رؤية استشرافية» للمملكة تجاه العلاقات مع الجاليات الهندية وغيرها. وما يمثله من هذه المبادرات بالتواصل مع المقيمين من «انسجام عالمي، فالمبادرة هذه تُعد تعبيراً عن توجه المملكة نحو بيئة أكثر انفتاحاً وتعدّدية، حيث يُنظر إلى المقيمين ليس كمؤقتين، بل كجزء من نسيج المجتمع. وتُعكس خطوة من خطوات بناء مجتمع متجانس يشمل المواطنين والمقيمين، ويعزّز مفهوم الشراكة والتكامل. وتُعد رسالة عالمية تُبيّن أن السعودية تسعى لأن تكون مقصداً ليس فقط للعمل أو الاستثمار، بل للحياة والمشاركة الثقافية والاجتماعية. كما أنها تُسهم في تعزيز الصورة السعودية الدولية كمجتمع حديث ومتعدد، يقدّر التنوع الثقافي ضمن إطار التطور والنهضة. وفرصة لتقوية روابط الانتماء للمقيمين، ما يعزز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. وتسويق ثقافي هام، فالمملكة تُقدّم نفسها كمشهد متنوع ومعيشة متعددة الجنسيات، ما يجذب المواهب والاستثمارات. والعمل على توسيع البُعد الثقافي في المدن السعودية من خلال فعاليات تجمع المقيمين والمواطنين وتبادل الخبرات. وتحتاج مثل هذا المبادرة في قياس الأثر وُترجمتها إلى مؤشرات ملموسة مثل المشاركة المجتمعية، وتحسين نوعية الحياة للمقيمين، والتعامل مع الفوارق في الخلفيات اللغوية والثقافية للمقيمين لضمان فعالية الأنشطة والتواصل والتعايش. «اندماج وتعايش» والمبادرة كانت تحمل بعدًا دولياً ناعمًا والرسالة التي تلتقطها وسائل الإعلام الأجنبية والعربية ليست فقط «السعودية تستقطب العمالة»، بل السعودية وجهة يمكن بناء حياة طويلة فيها، مع عائلة، وتعليم، وترفيه، وفرص مهنية. وهذا يتقاطع مع إصلاحات أخرى مرتبطة برؤية 2030 مثل تسهيلات الإقامة المميزة، التي تمنح بعض المقيمين قدرة أكبر على الاستقرار وامتلاك الأصول والتخطيط على المدى البعيد بدون نظام الكفيل التقليدي. وهذه الخطوة اعتُبرت من خبراء الأعمال جزءًا من خلق مناخ يسمح للمقيم ببناء جذور اقتصادية واجتماعية داخل المملكة بدل العيش الذهني على حقيبة سفر جاهزة للعودة. وبصياغة أكثر مباشرة، المملكة تُرسل إشارة إلى الكفاءات العالمية (أطباء، مهندسين، مطورين، مستشارين، مبدعين) بأن السعودية ليست محطة مؤقتة، بل من الممكن أن تكون البيت الأول. وهذا مهم في سباق عالمي على المواهب والاندماج مع مجتمع متعدد ومتعايش والتطور الذي تعيشه المملكة ليس فقط ناطحات سحاب ومشاريع كبرى، بل أيضًا وعي إنساني بكرامة الناس وتنوّعهم. والفكرة هنا: أن تكون مدينة سعودية -كالرياض مثلاً- مكانًا تُعرض فيه ثقافات اليمن والهند والفلبين وإندونيسيا وباكستان وسوريا ومصر وغيرها في فضاء عام رسمي، وبحضور أطفال سعوديين، يعني أن التعدد بات جزءًا من المشهد البصري اليومي، لا شيئًا مستورًا في مجمع سكني أو حيّ مغلق. وهذا يحمل دلالة تربوية أيضًا. أطفال سعوديون يشاهدون رقصات شعبية من دول آسيوية وإفريقية، وأطفال مقيمين يشاهدون تراث سعودي ويحتكون مباشرة بالمجتمع المحلي، ما يخلق ذاكرة مشتركة. وذاكرة الطفولة المشتركة هي أقوى أداة اندماج اجتماعي طويل المدى، والبعد الاقتصادي والاجتماعي في آنٍ واحد وتؤكد المبادرة كذلك على إبراز مساهمات المقيمين في الاقتصاد الوطني، وقصص نجاحهم المهنية وريادتهم، بالتوازي مع سرد قصصهم الإنسانية. وهذا مهم لأن السرد الإعلامي التقليدي في المنطقة كان غالبًا يفصل بين الدور الاقتصادي والانتماء الإنساني. والجديد هنا أن المملكة تحاول دمجهما في رواية واحدة. « إعادة بناء » ومن زاوية السياسات العامة، فهذا الدمج يخدم أهداف الاستقرار الاجتماعي، فحين يشعر المقيم أنه محترم ومُقدَّر، تزداد احتمالات التزامه بالقوانين، ورغبته في الاستقرار، وربما استثماره داخل المملكة. وهذا ينعكس على مؤشرات مثل جودة الحياة، والسمعة الدولية، وحتى جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، إذ تُصبح صورة البلد مجتمع قابل للعيش والتعايش، لا مجرد مركز عمل قاسٍ. لا يمكن فصل هذا التوجه عن السياق الأكبر «رؤية السعودية 2030». فالرؤية ليست فقط خطة اقتصادية للخروج من الاعتماد على النفط، بل مشروع إعادة بناء نمط الحياة، المجال العام، والهوية الحضرية للمدن السعودية، بحيث تصبح قادرة على جذب مواهب وسكان واستثمارات على المدى الطويل. من هذا المنظور، فالتواصل مع المقيمين ليست مبادرة علاقات عامة عابرة، بل قطعة من لوحة أكبر لمدينة عالمية، واقتصاد متنوع، ومجتمع شاب، ومساحة عامة مفتوحة ثقافيًا. فالرياض تُروَّج اليوم كعاصمة إقليمية للفنون والرياضة والترفيه، وفيها مشاريع كبرى كالفعاليات الثقافية المفتوحة وفنون الشارع العامة (مثل مبادرات الفن العام في الرياض)، وهذه المبادرات جزء بسيط من خطة لتحويل المدينة إلى منصة حضرية حديثة. وهذه الرؤية الحضرية نفسها لا تكتمل دون الاعتراف بأن سكان المدينة ليسوا جنسًا واحدًا أو خلفية واحدة. والتواصل مع المقيمين ليس مجرد فعاليات موسمية مرتبطة بموسم الرياض والروزنامة الترفيهية بل سيتحول إلى مسار دائم في الإعلام، والتعليم، والخدمات البلدية، والصحة، والقوانين. والمشهد السعودي الجديد، أنه لم يعد الانفتاح مجرد حديث عن الاستثمار الأجنبي أو السياحة أو الفعاليات الضخمة. فالانفتاح أصبح أيضًا طريقة في النظر للإنسان المقيم داخل المملكة، واحترام ثقافته، والاعتراف بجهده، وإشراكه رمزيًا ومعنويًا في «قصص النجاح السعودي» لأن مبادرة تعزيز التواصل مع المقيمين ليست مجرد عرض فولكلور متنوع الألوان؛ إنها إعلان أن السعودية باتت ترى نفسها بيئة حضرية عالمية، تتحرك بثقة نحو التعددية الاجتماعية باعتبارها جزءًا من هويتها الوطنية الحديثة، لا كاستثناء عليها أن تتسامح معه.