على قمم الهدا والشفا، حيث تفوح رائحة الورد وتغمر الضباب قمم الجبال، تقف الطائف شامخة منذ أزمان بعيدة، ليست مجرد مصيف صيفي بل ملاذ للروح والجسد، لطالما لجأ سكان الحجاز ودول الخليج إلى هذه العروس الجبلية للهروب من حرارة الصيف، بحثًا عن مناخ معتدل وهواء نقي ينعش الأبدان ويمنح النفوس سكينة وراحة. واليوم، ومع تسارع خطوات المملكة نحو تحقيق مستهدفات رؤية 2030، تقف الطائف على مفترق تاريخي جديد، إذ تتجه لتحويل إرثها العريق في الاستشفاء الطبيعي إلى صناعة سياحية علاجية متكاملة تجمع بين عبق الماضي وفرص المستقبل، لتصبح عاصمة السياحة العلاجية على المستويين الوطني والدولي. المنظومة الصحية والبنية التحتية وأوضح المستشار الاقتصادي د. ماهر آل سيف أن الطائف ليست مجرد منطقة ذات طقس معتدل، بل تمتلك منظومة صحية متكاملة تنتظر من يفعّل إمكاناتها الكامنة. وأشار إلى أن تجمع صحة الطائف يشكّل العمود الفقري لخدمات الرعاية الصحية بالمحافظة، حيث يخدم أكثر من مليون مستفيد عبر شبكة تضم 16 مستشفى عاماً وتخصصياً و107 مراكز للرعاية الأولية بطاقة استيعابية تفوق 2,640 سريراً، ما يجعلها بيئة مثالية لبرامج علاجية وتأهيلية متقدمة تشمل العلاج الطبيعي، التأهيل بعد الجراحة، الطب الوقائي، ومنتجعات الرفاه الصحي. الفرص السياحية وأكد آل سيف أن السياحة السعودية تشهد طفرة غير مسبوقة مع وصول عدد الزوار إلى 116 مليون زائر في عام 2024، وهو ما يفتح المجال أمام تطوير مسارات سياحية نوعية ومتخصصة، من أبرزها السياحة العلاجية والرفاه الصحي، التي تتناغم بطبيعتها مع المناخ المعتدل والبيئة الجبلية للطائف. وأضاف أن هذا التوجه يعزز الأهداف الوطنية لتنويع مصادر الدخل وبناء اقتصاد معرفي خدمي مستدام. الأثر الاقتصادي وبيّن آل سيف أن برامج النقاهة والعلاج التأهيلي في الطائف لا تجذب زواراً مؤقتين فقط، بل تستقطب مقيمين لفترات طويلة تتراوح بين أسابيع وشهور، ما يرفع معدلات إشغال الفنادق والمنتجعات، وينعش الاقتصاد المحلي عبر قطاعات المطاعم، النقل، والخدمات الطبية المساندة. وأشار إلى أن منتج "الاستشفاء في أحضان الطبيعة" يمثل فرصة فريدة لتحويل الطائف إلى وجهة لا تُقاوَم، تجمع بين الاسترخاء والعلاج، وتحقق قيمة اقتصادية واجتماعية مستدامة. توطين الوظائف وتعزيز الكفاءات ولفت آل سيف إلى أن توسّع الطلب على الخدمات العلاجية في الطائف سيؤدي إلى زيادة الحاجة إلى كوادر متخصصة تشمل أخصائيي العلاج الطبيعي والوظيفي، التمريض، التغذية العلاجية، والصحة النفسية، إلى جانب مديري المرافق الصحية. وأضاف أن هذا المسار يشكل فرصة حقيقية لتوطين الوظائف النوعية داخل المحافظة، وتحويلها إلى حاضنة مهنية تجذب الكفاءات وتعيد تشكيل سوق العمل المحلي بما يتماشى مع رؤية المملكة في تعزيز المحتوى المحلي وتنمية الاقتصاد المعرفي. سوق الرفاه الصحي وأشار آل سيف إلى أن سوق العلاج والرفاه الصحي (Wellness) يعد من أسرع القطاعات نموًا في المملكة، إذ بلغ حجمه 9 مليارات دولار في عام 2024 مع توقعات بارتفاع مستمر في السنوات المقبلة. وأوضح أن هذا الزخم يشجع على تدفق الاستثمارات الخاصة نحو الطائف في مجالات متعددة تشمل مراكز التأهيل والعلاج المتكاملة والمنتجعات الصحية المدمجة والعيادات التخصصية وخدمات الطب عن بُعد. وأكد أن تكامل هذه الاستثمارات مع طبيعة الطائف الجبلية ومناخها الصحي سيمنح الزائر تجربة علاجية وسياحية فريدة تعزز مكانة المحافظة كوجهة عالمية للسياحة العلاجية. التقديرات المالية وكشف آل سيف أن إجمالي الإنفاق السياحي في المملكة بلغ 284 مليار ريال في عام 2024، وإذا تمكنت الطائف من استقطاب 1 % فقط من هذا الإنفاق عبر باقة "مصيف + علاج ونقاهة"، فسيعادل ذلك 2.8 مليار ريال سنوياً تُضخ في اقتصاد المحافظة. وفيما يخص سوق الرفاه الصحي، أوضح أن استقطاب الطائف 3 % إلى 5 % من السوق السعودي المقدّر ب 34 مليار ريال، يعني تحقيق إنفاق سنوي يتراوح بين 1.0 و1.7 مليار ريال، مع فرص كبيرة للنمو المستقبلي. نموذج وطني وأكد آل سيف أن نجاح تجربة الطائف في تطوير السياحة العلاجية لا يقتصر على حدودها، بل يمكن أن يكون نموذجًا وطنيًا يُستنسخ في محافظات جبلية أخرى مثل أبها والباحة والعلا، ما يسهم في رفع متوسط إنفاق السائح وزيادة نسبة السياحة ذات القيمة المضافة، لتتحول من ترفيه عابر إلى علاج وتأهيل ورفاه صحي طويل الأمد. واختتم آل سيف حديثه بالتأكيد على أن السياحة العلاجية تسهم في تعميق المحتوى المحلي من خلال توظيف الكوادر الوطنية وتوطين التقنيات الصحية، فضلًا عن تسريع التحول الرقمي في الخدمات الطبية والسياحية. وأضاف أنه إذا نما قطاع الرفاه الصحي في المملكة من تسعة مليارات دولار في 2024 إلى 15.2 مليار دولار بحلول 2033، فإن حصة المحافظات الجبلية المؤهلة وفي مقدمتها الطائف يمكن أن ترتفع تدريجيًا إلى مليارات الريالات سنويًا، لتسهم بشكل كبير في الاقتصاد الوطني وتعزز مكانة المملكة كمركز عالمي للسياحة العلاجية. د. ماهر آل سيف تحول من الاستشفاء الطبيعي إلى صناعة سياحية علاجية