شهدت الرياض حدثاً ثقافياً واقتصادياً غير مسبوق تمثل في النسخة الأولى من مؤتمر الاستثمار الثقافي، الذي نظّمته وزارة الثقافة على مدى يومين في مركز الملك فهد الثقافي، بمشاركة أكثر من 150 متحدثاً وحضور فاق 1500 من قادة الاستثمار وصنّاع القرار والمبدعين من داخل المملكة وخارجها. الحدث الذي تجاوز أن يكون منصة للحوار والنقاش حول الاستثمار والثقافة؛ تحوّل إلى ساحة صفقات استراتيجية نتج عنها توقيع 89 اتفاقية، وإطلاق صناديق استثمارية متنوعة، تجاوزت قيمتها الإجمالية 2.5 مليار ريال، ما يعكس دخول الثقافة بقوة إلى معادلة الاقتصاد الوطني، باعتبارها قطاعاً واعداً وجاذباً لرأس المال. وكان من أبرز ما أُعلن خلال المؤتمر صندوق استثماري جديد للأفلام بحجم 375 مليون ريال، وصندوق للأزياء بقيمة 300 مليون ريال، إضافة إلى صندوق الأصول الثقافية الذي بلغ حجمه 850 مليون ريال، مع مساهمة مباشرة قدرها 200 مليون ريال من الصندوق الثقافي، ليغطي قطاعات الفنون البصرية والمحتوى الرقمي والإعلام والأزياء، كما شهد المؤتمر إطلاق منتج تمويلي هو الأول من نوعه بقيمة تفوق مليار ريال، بينما أعلنت مجموعة أوري الصينية عن افتتاح مقر إقليمي باستثمار يتجاوز ملياري ريال، يتركز على صناعة الأفلام والتعليم والأزياء والسياحة والفعاليات الثقافية، في خطوة تُرسّخ الرياض مركزاً إقليمياً وعالمياً جديداً لصناعة الثقافة والإبداع. إلى جانب الأرقام الكبيرة، حمل المؤتمر بعداً نوعياً تمثل في إعلان وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان عن تأسيس جامعة الرياض للفنون، التي ستصبح قاعدة تعليمية وإبداعية لتأهيل المواهب الوطنية وصقل قدراتها، بما يواكب التحولات العالمية في الصناعات الإبداعية، وهذا المشروع يعكس الرؤية الواضحة بأن الاستثمار الثقافي لا يقتصر على البنية التحتية والمشروعات الملموسة فحسب، بل يشمل الإنسان باعتباره رأس المال الأهم في صناعة المستقبل، وهو ما يتكامل مع الاستثمارات التي رصدتها المملكة منذ انطلاق رؤية 2030، والتي تجاوزت 81 مليار ريال في البنية التحتية الثقافية، بمشاركة القطاعين العام والخاص والقطاع غير الربحي. فيما توزعت الجلسات النقاشية على أكثر من 38 محوراً تناولت قضايا جوهرية في تقاطع الثقافة مع الاقتصاد، حيث أكد الوزراء والمسؤولون المشاركون على أن الثقافة لم تعد نشاطاً نخبوياً أو ترفيهياً، بل تحولت إلى رافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومحرك لتوليد الوظائف وتنمية السياحة وتعزيز الهوية الوطنية، وعكست جلسات مثل "الثقافة كاستثمار إستراتيجي" و"الابتكار الثقافي كوقود للمستقبل" و"المهرجانات الثقافية كمحفزات للتنمية" التحول في النظرة إلى الثقافة كفئة أصول استثمارية غير مستغلة بعد، قادرة على جذب التمويل العالمي وإحداث أثر اقتصادي ملموس. ولم يقتصر النقاش على التمويل والبنية التحتية، بل امتد إلى دور الثقافة في بناء الجسور الدبلوماسية، حيث أكدت سمو الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان السفيرة السعودية في واشنطن، على أنّ الثقافة أصبحت أداة للقوة الناعمة السعودية، ومكوّناً أساسياً في صورتها الدولية، بما يوازي أثرها الاقتصادي المباشر، وقد تلاقى هذا الطرح مع جلسات ناقشت "الثقافة العالمية كقوة للتماسك المجتمعي" و"المشروعات السعودية الكبرى كنافذة لإبراز الثقافة عالمياً"، في إشارة إلى أن البعد الاقتصادي والثقافي لا ينفصلان عن البعد السياسي والدبلوماسي. ويتجاوز الأثر الاقتصادي المتوقع للمؤتمر حجم الاتفاقيات والصناديق المعلنة، فهذه الاستثمارات تعني عملياً آلاف الوظائف الجديدة، وتعني أيضاً تحفيز قطاعات مرتبطة مثل السياحة والفنون الرقمية والأزياء والضيافة، وهي مجالات تدخل مباشرة في حسابات الناتج المحلي الإجمالي، وتساهم في تنويع مصادر الدخل بعيداً عن النفط، كما أنّ دخول صناديق مؤسسية وشركات عالمية على خط الاستثمار الثقافي السعودي يعزز ثقة الأسواق الدولية، ويفتح المجال لتدفقات مالية جديدة ترفع من تنافسية القطاع الثقافي السعودي مقارنة بالأسواق الناشئة الأخرى. ولعل من أسباب نجاح النسخة الأولى للمؤتمر تكمن في النموذج يقوم على ثلاث ركائز أساسية: إبراز الثقافة كفرصة استثمارية ذات مردود اقتصادي، وتعزيز رأس المال الثقافي عبر آليات تمويل مبتكرة، واستخدام الثقافة كجسر للتواصل العالمي، وهذه الركائز ليست مجرد شعارات بل تجسدت في الاتفاقيات والشراكات المعلنة، وفي الحضور العالمي المتنوع، وفي الطرح الأكاديمي عبر إطلاق جامعة متخصصة في الفنون، بما يجعل الثقافة عنصراً متكاملاً في معادلة التنمية الوطنية. وبعد إسدال الستار عن المؤتمر يمكن القول بأنّ، وزارة الثقافة نجحت -من خلال هذا المؤتمر- في إرسال رسالة تؤكّد على أنّ الثقافة قطاعاً استراتيجياً في رؤية السعودية 2030، وأنّ المملكة لاعب رئيسي في الاقتصاد الثقافي العالمي الناشئ، ومع أن المؤتمر هو نسخته الأولى، إلا أن نتائجه الملموسة أظهرت أنه لم يكن مجرد انطلاقة تجريبية، بل تأسيساً لمرحلة جديدة تُعطي للثقافة وزناً اقتصادياً يوازي مكانتها الحضارية، وتجعلها مورداً دائماً للتنمية والابتكار والهوية.